كانوا يقفون وكأنهم مجموعة من التلاميذ الاشقياء في فناء مدرسة وصمتوا عندما مررت بهم. الفرق الوحيد هو أنها لم تكن مدرسة وانما كانت حدائق الكرملين التي تحفها الجدران ولم يكن "التلاميذ" سوى رئيس جهاز المخابرات السوفيتي (كيه.جي.بي) ووزير الدفاع ووزير الداخلية ورئيس الوزراء.
كان هذا هو اخر يوم عمل لهم. كان البرلمان السوفيتي قد بدأ عطلته الصيفية وكنت أسرع بقطع المسافات داخل مقر الكرملين متجها الى الميدان الاحمر.
لاحظت وجودهم وتساءلت عن الامر الذي كان يتحدث بشأنه وزير الدفاع ديمتري يازوف ورئيس جهاز المخابرات فلاديمير كريوتشكوف وشريكاهما في المغامرة.
ربما كان ينبغي علي أن أسأل. ففي تلك الايام المزدهرة لما عرف بالبريسترويكا أو اعادة البناء كان بمقدور الصحفيين الاجانب اجراء مقابلات مع شخصيات بارزة. لكن على أية حال لم اضطر الى الانتظار طويلا لاكتشف الامر.
فبعد شهر أو أكثر وبالتحديد في أغسطس اب من عام 1991 أطاح الاربعة "بمدير المدرسة" الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف وأعلنوا أنفسهم حكاما للاتحاد السوفيتي. وعندما فشل الانقلاب سيقوا في خزي الى سجن (سيلورز رست) في موسكو.
من الخطأ التهوين مما حدث في أغسطس 1991 .. فهو حدث أسرع بانهيار الاتحاد السوفيتي وقلب حياة الملايين رأسا على عقب. وقتل ثلاثة أشخاص وكان من الممكن أن يقتل المزيد وكان ما حدث مفزعا بالنسبة للبعض.
لكن بدا لي دائما طوال هذه الايام الثلاثة أن هناك أمرا ساذجا وصبيانيا وغير مسؤول ازاء ما يعرف باسم "لجنة الطوارئ" التي شكلها مدبرو الانقلاب لاستعادة الامن والنظام بطريقتهم الخاصة.
ولم أخل شخصيا من البراءة.. فلقد ظللنا نحن الصحفيين الاجانب نناقش من مقرنا الذي يحرسه رجال المخابرات امكانية حدوث انقلاب من المتشددين على جورباتشوف.
لكن ماذا كتبت أنا في مفكرتي قبل أن أترك المكتب في تلك الامسية الصيفية الدافئة..
كتبت "يبدو أن يوم الاثنين سيكون هادئا."
وبعد ساعات وبينما كنت نائما بدأت وكالة تاس السوفيتية الرسمية للانباء تنقل أنباء تشكيل لجنة الطوارئ لتبدأ بعد ذلك ثلاثة أيام من الصخب وثلاث ليال لم يعرف النوم لها طريقا.
ففي مساء ذلك الاثنين تحدث جينادي ياناييف نائب الرئيس السوفيتي في مؤتمر صحفي نقله التلفزيون وشرح كيف اضطرت لجنة الطوارئ الى التصرف لانقاذ الاتحاد السوفيتي من التفكك.
وقال ان جورباتشوف مريض وانه في المنزل الذي يقضي فيه عطلاته ولا يمكنه الحضور. والحقيقة هي أن جورباتشوف كان مسجونا في هذا المنزل وكانت سفينة حربية تقف قبالة الساحل وكان في شدة الغضب حسب روايته هو نفسه.
كان هناك أمر يعتري ياناييف وارتعشت يداه بوضوح بينما كان يقلب في الاوراق على المكتب. ولاحظ من في البلد جميعهم هذا الامر كما لاحظه زملاؤه في لجنة الطوارئ.
كانوا جميعا ساذجين للاعتقاد بأن الاتحاد السوفيتي لم يتغير منذ بدأ جورباتشوف اصلاحاته عام 1985 . كانت اصلاحات استهدفت وقف تراجع اقتصادي يتخفى وراء قناع الدولة العظمى. وخففت الاصلاحات -ولو لفترة ربيع قصيرة- خوفا من السلطة ظل متأصلا في أجيال عانت من القمع السياسي.
كانوا يظنون أن بامكانهم الاشارة بأصابعهم فقط كي تستجيب أجهزة الحكم طائعة وهي تعرف ما عليها فعله. لكنهم عندما أشاروا بأصابعهم لم يجدوا سوى تردد وتشكك وتهكم وضجر وشلل.
بل انهم لم يفكروا حتى في اغلاق المطارات والسيطرة على نظام الهواتف لعزل أي معارضين. لم يعتقدوا أن ذلك ضروري.
وأصدرت اللجنة قوائم طويلة من المراسيم كانت تتلوها شابة على شاشات التلفزيون. وأرسلت اللجنة دبابات الى وسط موسكو وفرضت حظر تجول واعتقلت البعض لكن هذا لم يكن كافيا.
وفي الشوارع بدا الامر وكأنه بعيد عن الواقع.. مسنات يتسلقن عربات مصفحة ودبابات بجوار جدران الكرملين لتقديم شطائر ونقانق للجنود الشبان. والتف بضعة الاف حول الرئيس الروسي بوريس يلتسن أمام "البيت الابيض" على ضفاف نهر موسكو.
ثم بدأ هطول المطر واستمر لثلاثة أيام.
وبحلول مساء الثلاثاء كان مدبرو الانقلاب قد فقدوا الثقة في قدرتهم على النجاح. أتذكر أنني كتبت موضوعا عن اعلان رئيس الوزراء فالنتين بافلوف استقالته من لجنة الطوارئ لاسباب صحية.
وفقد أعضاء اللجنة السيطرة على أعصابهم وأصبحوا أكثر خطورة. وفي مساء الثلاثاء قتل ثلاثة أشخاص في اضطرابات غير بعيدة عن شقتي. وبحلول الصباح علموا أن كل شيء انتهى.
جلس وزير الداخلية بوريس بوجو الذي كان أحد أفراد المجموعة التي رأيتها تتآمر في الكرملين على سريره وصوب مسدسا الى رأسه وأطلق الزناد.
وذهب قادة الانقلاب الاخرون الى المطار. كانوا متجهين الى المنزل الذي يقضي فيه "مدير المدرسة" عطلته ليقدموا -وهم يرتعدون بلا شك- اعتذارهم ويطلبوا السماح.