لملمت الشمس أطرافها، وألقت نظرة حانية على الصحراء، وأخذت تسير ببطء متجهة إلى ما وراء الوهاد، تاركة أبناءها يستعدون الإخلاد إلى النوم، ولتذهب هي أيضاً تأخذ قسطاً من الراحة في أحضان الكون . لكن القافلة لم تتوقف عن المسير، صحيح أن الشمس ذهبت لتستريح غرباً، لكن القافلة أصرت على المضي شمالاً مع ميل إلى المشرق . كان (أبو عبد الرحمن) يتمايل على ناقته وقد لفَّهُ الصمت والهيبة، وعدد من رفقائه يسيرون حوله بوقار وسكينة سرت من محياهم إلى الجمال التي يركبونها . بدأ الليل يرسل لحافه على النائمين في مناكب الأرض والنجوم ترسل إشاراتها للسائرين، من يدري لعلها تشفق على أولئك الذين يخترقون سواد الليل، فهاهي تدعوهم للاهتداء بضوئها الجميل المتراقص كالمصباح الذي تمازحه الريح. ترك الأصحاب الطريق لأبي عبد الرحمن وساروا وراءه تاركيه لصمته وسكونه وهيامه وتأملاته، إذ أنهم أدركوا أنه انفصل عنهم وأصر على المضي طوال الليل منتشياً بهذه الصحراء وليلها الهادئ، هل سحره جمال النجوم ورمل الصحراء في هذه الأرض البعيدة التي غابت فيها مظاهر الحياة ؟ لا جبال لا أشجار لا أودية لا عمران ، ليل بهيم وسطح رملي أملس ونجوم مسافرة، وأخرى قادمة كأنها تشاركهم السير ، حتى ليُخيَّل إليهم أن النجوم التي تركوها قد غادرت الحجاز وجاءت لتسابقهم في الوصول إلى الكوفة. يا إلهي ! كيف سيكون ليل الحجاز بلا نجوم؟! أما (أبو عبد الرحمن) فقد ذاب في الزمان والمكان والاتجاه، كان لا يشعر بأنه على ظهر ناقته، بل حسب نفسه راكباً أجنحة الليل الذي أخذ يتسلل إلى ذاته المنتشية ، فجعل نسيمه يدير عجلة ذاكرته إلى الوراء، نسي من حوله، فعاد إلى جبال مكة وأوديتها وأنديتها، كأنه يستنطقها عليها تخبره بما جرى، لقد كان ما حصل فوق الخيال والممكن والمعقول، كانت تقفز إلى خياله الكثير من التساؤلات التي لا يجد لها وربما وجد لها إجابات، لقد اختلط المعقول واللا معقول في ليلة الصحراوي الحالك، هل هي لحظات تجلٍ صنعها الزمان والمكان؟ كانت جبال مكة تطل برأسها إلى ذهنه وقد دبت فيها الحركة كناقته الذلول، فيرى هناك بؤسه وضياعه، لقد كان لا يختلف كثيراً عن شاة من قطيعه الذي يرعاه لأسياده من بني مخزوم. انتابته قشعريرة حين مر بخاطرة (بنو مخزوم) كأنها إشارة إلى لحظات ترتجف حزناً وألما، شعر أنه يشم رائحة مخلفات الأغنام وهي تتبعثر في حظائر الماشية . كان أصحابه يجرّون أنفاسهم وراءه طوال الليل، وسحائب من التعب والنعاس تتغشاهم، حيث أنهم لم يغادروا ظهور الإبل إلا لصلاة المغرب والعشاء جمع تأخير، لم يجرؤوا أن يراجعوا حينما شعروا بأنه يحب أن يقضي ليله على ظهر ناقته، هل يحسون بما يموج في خواطره ؟ إن الحدث كبيرٌ، عصي على التفسير ،فَلِمَ يرهق نفسه في فلسفة وقائعه ؟ فليعز ذلك لمشيئة الرب . لم يكن يتصور أن يغادر حظائر بني مخزوم إلا إلى القبور حيث يتاح له هناك فقط أن يرقد بجوار أسياده، هكذا كانت الحياة ستمضي كما مضت على كثير ممن سبقوه من الرعاة والضعفاء والعبيد، إنها فلسفة الواقع الذي يفرض شروطه غير ملتفت إلى مشاعر الناس واحتياجاتهم وطموحهم بل ولا إلى إنسانيتهم . أخذت الدموع تتقافز من عينيه حينما جرَّته الذكريات إلى ذكر أستاذة العظيم الذي خلَّفه في المدينة راقداً بين أحشائها تحتضنه بحنان تحت تربتها . أخذ يتمتم بكلمات يناجي بها ذاته والعبرة تخنقه : لأكونن وفياً بعهدك، لقد أخرجتنا من كابوس القهر والجهالة ،لأحملن عهدك إلى العراق، ولأصرخن به بأعلى صوتي لأني على يقين أن صوتي سيمتطي الريح فيصل إلى أطراف الصين، وسيخترق الجبال متجها إلى شعوب الرومان،لقد وعيت دروسك، لقد فهمت تعاليمك،آه لو كان لناقتي جناح لطرت بتعاليمك إلى حيث تنتهي الثلوج ، أريد أن يعلموا ما صنعتَ بنا، أريدهم أن يروا الراعي كيف أصبح معلماً قديساً، أريد أن أخبرهم أنباء العبيد الذين أصبحوا قادة والعمي الذين طلع عليهم صبح البصيرة ، أريد أن أُرتِّل لهم كلمات الحياة، علَّها تذيب الأغلال التي تحيط بأعناقهم . أيها الشيخ ، ها هو الفجر قد طلع، فهل ننزل الآن لنصلي ؟ أم نسير قليلاً حتى يسفر وجه الصحراء ؟ كأنه لم يسمع، ومضى في مناجاة ذاته : الفجر؟ أي فجر تعني؟ قد طلع الفجر، وأضاءت الدنيا ، وودعنا الظلامُ، قبل أن يرحل حبيبي. أيها الشيخ ، يا أبا عبد الرحمن ،يابن مسعود .. هاهي الكوفة قد تبدت لنا كأنها العروس . انيخوا الإبل ، فلنصلِّ هنا ، قبل أن تطلع الشمس.