باريس سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    مذكرات صدام حسين.. تفاصيل حلم "البنطلون" وصرة القماش والصحفية العراقية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    كيف حافظ الحوثيون على نفوذهم؟..كاتب صحفي يجيب    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    هيئة عمليات التجارة البريطانية تؤكد وقوع حادث قبالة سواحل المهرة    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    الوزير الزعوري يطّلع على الدراسة التنموية التي أعدها معهد العمران لأرخبيل سقطرى    قيادات الجنوب تعاملت بسذاجة مع خداع ومكر قادة صنعاء    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على نيو إنجلاند برباعية في الدوري الأمريكي    بايرن ميونيخ يسعى للتعاقد مع كايل ووكر    الدوري الانكليزي الممتاز: ارسنال يطيح بتوتنهام ويعزز صدارته    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    على خطى الاحتلال.. مليشيات الحوثي تهدم عشرات المنازل في ريف صنعاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية: الطريق الى قنطرارة... الحلقة الأخيرة -
نشر في الجنوب ميديا يوم 26 - 03 - 2014

GMT 22:00 2014 الأربعاء 26 مارس GMT 21:35 2014 الأربعاء 26 مارس :آخر تحديث
مواضيع ذات صلة
رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية (10/10)
الأغالبة
سنوات كثيرة بعد هجوم بن الاشعث على طرابلس والقيروان، وإنهاء الدولة الاباضية الاولى، وعودة النفوذ العباسي إلى المنطقة، تهاوى الحكم االذي ارسته تلك الحملة، وبرز قائد من ابناء قادتها، هو ابراهيم بن الاغلب، الذي اسس في القيران دولة، لم تعلن القطيعة مع الدولة الام في العراق، وإنما ارتبطت بها ارتباطا صوريا رمزيا، وجعلت شعارها "لا غالب الا الله"، وادرك هذا الامير المؤسس، ان للامازيغ الاباضيين في جبال الاوراس وارض الجريد وجبل نفوسه اصرارا على الاستقلال بدولةخاصة بهم، فتوصل إلى تفاهم معهم، ومادام الاسلام يجمعنا، فان السياسة كما قال لموفد ابن رستم لن تفرق بيننا، خاصة وان ابن الاغلب لم يكن واقعا، كما كان ابن الاشعث، تحت النفوذ المباشر للخليفة العباسي، فقد اكتفى بان جعل العملة تصك باسم الخليفة، والمنابر ترفع اسمه وتدعو له، وبعض من خراج يذهب اليه في نهاية كل عام، وعدا ذلك فلدولته كامل استقلالها عن تلك الخلافة، ترسم سياساتها كما تشاء، وتتولى ادارة الارض التي تقع تحت سيطرتها دون رجوع إلى بغداد التي صارت عاصمة جديدة لهم ومقرا لملوكهم، ولان ابراهيم بن الاغلب المؤسس كان قد صرف النظر عن التوسع في الامصار الاسلامية المتاخمة له، فقد ذهب بافكاره عن التوسع والفتوحات، إلى الاماكن التي تخضع للنفوذ الاجنبي، وهي اماكن تقع على الشاطيء المقابل، فاهتم باعداد اسطول حربي، قادر على قهر الامواج في اعالي البحار، ومغالبة الاساطيل الاجنبية، ناويا ان يبسط نفوذ دولته على الشاطيء الشمالي للبحر الابيض المتوسط، وقد سعى اثناء حياته لضم اقرب هذه الشواطيء، واستطاع من جاء بعده من حكام بني الاغلب في القيران، ان يحققوا حلمه في الامتداد جنوبا، وان ينجحوا رغم المشاحنات الداخلية، والتمرد الحاصل على اطراف الدولة، في ضم اجزاء من الشواطيء الشمالية إلى دولتهم، واخضعوا مالطا إلى نفوذهم، كما اخضعوا كورسيكا، وسردينينا، والجزء الاكبر من صقلية.
وكان اختبارا كبيرا لتحصينات الدولة الفاطمية وابراج الحماية التي شيدتها على تخومها مع دولة الاغالبة عندما اغتر احد الامراء الاغالبة بانتصارته البحرية، واراد ان ينتقم لمهانة سلفه في طرابلس، وان يجرب قوته، مع الدولة الرستمية، فكسرالمعاهدات واخترق الاتفاقيات، وجاءت فرق الاستطلاع تبلغ جيش الدولة الرستمية ان ابن الاغلب قد تحرك بجيشه نحو جبل نفوسه، وكان القائد، المتربص على تخوم بلاده، ينتظر الانقضاض على كل من يشكل تهديدا ضد دولة بني قومه، صاحب الحلم الشهير، القائد الشيخ سعيد بن وسيم الويغوي، وكان قد استعد لمثل هذا الهجوم بقذائف النار التي لم يسبق لجيش بلاده استعمالها، كما استعد بالصخور التي ترمى بالمنجانيق، وانتظرجيش ابن الاغلب إلى وقت اقترابه من مرتفعات نالوت، حيث كانت المكامن التي اعدها في تمام جاهزيتها، وما ان حدث الاشتباك بين الجيشين، حتى بدأ جيش ابن الاغلب، يتلقى الضربات كانها قادمة اليه من السماء، ويدخل في حرب مع اشباح ترميه بالشهب من خلف السحب، واذا بالدمار يلحق معسكراته، والموت يصطاد جنوده، حتى الهروب كان عصيا، لان قذائف الناركانت تسبقهم إلى منافذ الفرار، وصخور المنجانيق كانت تنزل فوق رؤوسهم مهما ابتعدوا، وفي اليوم الثالث او الرابع ارسل امير القيران الوفود صاغرا، يطلب الصفح، ويتعهد امام الوسطاء الذين ارسلهم للامام افلح، الذي استلم الحكم من ابيه الإمام عبد الوهاب، انه لن يعود إلى فعلته، كما يتعهد باسم دولته واصحاب الحكم فيها من بعده، بالا يخالف اتفاقا او يخرق معاهدة مع الدولة الرستمية مدى الدهر.
احس سعيد وسيم الويغي بعد هذا النصر انه قد ادى حقا رسالته نحو بلاده، وان هذا النصر لابد ان يكون بشارة بانتهاء الكابوس، الا ان كابوس طيور البوم ظل ملازما له، بعد النصر، فما معنى ذلك؟ قال يسائل نفسه، انه واثق من ان الخطر الذي يهدد الدولة الرستمية قد زال، وان عقودا كثيرة من الامان ضمنها لها نصر الايام الماضية ضد طغيان بنى الاغلب وجبروتهم، وقرران يتناسى الكابوس، فلا يلقي له بالا، صار جزءا من روتينه الليلى، وسوف يستمر في مهمة قيادة الجيش وحراسة الحصون، طالما بقى فيه جهد على الخدمة العسكرية، وهي خدمة لا تنافسها في حياته الا خدمة العلم والدين، فقد عاد لاداءعمله العلمي في المعهد العالي والمكتبة المركزية، وجعل منذ رجوعه إلى قنطرارة، زوجته هي القيمة على المكتبة، تخدم زبائنها،وتقوم بتصنيف كتبها، وتسعى بتزويدها بالكتب الجديدة، وتقوم بتكليف اهل النسخ والتحبير بكتابة النسخ الجديدة.
وهناك كثيرون من اهل قنطرارة وبعد ان ابلى هذا البلاء في رد العدوان، يطالبونه بان يتفرغ للعلم، فهم يريدون شيخا لمجلس علمائهم من طرازه الرفيع، ومرجعا علميا تولى ادارة معهدهم العالي، بعد ان فتحوا له فروعا جديدة، وعلوما اضافوها إلى ما يتولى تدريسه من علوم، فمرة يدخلون علم التجويد والقراءات، ومرة علم المدائح، ومرة علم الخطوط، وهناك علم الارابيسك والزخارف الاسلامية التي تزين المنابر وجدران المساجد، خاصة انه صار مطمئنا إلى ان اي تهديد للبلاد، كان يلوح له قريبا، قد توارى بعيدا جدا، بعد هذه المعركة، ولا احتمال لحصوله لعقود كثيرة قادمة.
رحيل الأم
صراخ مزق ليل قنطرارة. صراخ طويل، لم يستطع احد ان ينتبه لمن يكون صاحبه، ولا ان يميز ان كان رجلا او إمرأة. صراخ انبثق ممضا مؤلما مرعبا، يخرج من عمق جوف صاحبه، محملا باللوعة والحرقة والاسى. صراخ يتوزع في ليل البلدة، كانه جراح تنزف دما من قلب هذا النائح او هذه النائحة، فلم يستطع رجال البلدة البقاء في مضاجعهم. خرجوا من دفء الافرشة إلى برد الليل، لاستطلاع سر هذا النواح، واتجهوا صوب مصدر الصوت، فاذا به ياتي من من مسكن العمة ميمونة، واذا بابنها زهير، قد اخرج امه ملتفة في لحافها، مسجاة فوق الحصير امام البيت، متوفاة، وهو بجوار جثمانها يندب، ويكتح التراب فوق رأسه، غير عابيء ببرد الليل الذي يسفع جسمه بسياطه. امسكوا به لمنعه من كتح التراب، وهدأوا من خاطره، يذكرون امامه الآيات التي تحث على الصبر والاحتمال، وجلس عدد من الشيوخ قرب راس المتوفاة يلتحفون بعباءات صوفية ثقيلة، يقرأون بصوت جهوري سورة ياسين قراءة جماعية، فتوقف ابنها على النواح، وجلس يذرف دموعا صامتة، واوقد احدهم نارا كبيرة لطرد لسعات البرد، في مثل هذا الوقت من آخر الليل، واحضر سخانا لاعداد الشاي، يعينهم على السهر، حيث قرروا البقاء يقظين حتى مجيء النهار، لاخذها إلى الجامع والقيام بمراسم الصلاة على جنازتها قبل نقلها إلى المقبرة.
وفي الصباح كانت كل البلدة تجتمع في مأثم العمة ميمونة، الرجال في الجامع ثم في المقبرة، والنساء يفترشن البسط في حرم بيتها وداموسها، وفي الليل اقاموا كما هي تقاليد المآثم في الجبل، وليمة احياء لذكراها، فهي تمثل رمزا لجيل الامهات في قنطرارة، وعانت وشقيت وشاركت في معارك بناء الدولة الاباضية الاولى، وبناء الدولة الاباضية الثانية، وصارت صنوا للرواد والمؤسسين، الذين يستحقون الثناء والتبجيل ويدين لهم الجيل الجديد بالفضل والاعتراف بالجميل.
وفي اليوم التالي لدفنها، لم يتغير اي شيء لزبائنها، ممن اقبلوا على الانتفاع باعشابها وما تقوم بتصنيعه من رحيق وعصائر ومراهم، فقد وجدوا ابنها زهير، الذي شرب اسرار مهنة امه، واتقن القيام بها، جاهزا بانتظار هؤلاء الزبائن، يتولى خدمتهم ويقدم لهم نفس السلعة، وقد تم اعدادها وتحضيرها بذات المهارة والكفاءة التي استقاها من الام.
ايام بعد وفاة العمة ميمونة، وقفت على رأس زهير، أثناء انهماكه في تحضير الادوية، في زريبة الداموس، وامامه اكداس الاعشاب، وعدد من الاعية الفخارية والزجاجية، إمرأة في منتصف العمر، ترتدي برقعا شفافا، يضع ظلالا على ملامح وجهها دون ان يخفيها، يحيط بها عدد من الرجال، يرافقونها في هذه الجولة التي خرجت تتفقد اثناءها معالم قنطرارة، وجاءت إلى هذا المكان بعد ان زارت معهدها الديني، وجامعها الكبير، ومكتبتها المركزية، حيث يدير زهير مربع صناعة الاعشاب الطبية الذي ورثه عن الوالدة، بقصد ان تقدم له واجب العزاء في امه.
وقفت بمحاذاته حيث كان منحنيا على اناء فخاري، يضع فيه خليطا من رحيق الاعشاب، والقت عليه التحية. ولم يكن زهير يحتاج لان يتطلع إلى وجه إمرأة كانت في لحظة من عمره، محور حياته، وتمثلها سدرة المنتهى لاحلامه وطموحاته، لكي يعرف من تكون، فقد وقف ينظر في ذهول واندهاش اليها، ولم تنتظر هي حتى ينتهي من حالة الذهول والارتعاش، مدت اليه يدها تقدم له العزاء في وفاة امه، قائلة بان رحيلها يمثل فقدان شيء عزيز بالنسبة لها، فقد كانت بمثابة الام لها هي ايضا. مد زهيراصابعه يضعها في اصابعها، قائلا بشفاه لا تكاد تقوى على الحركة والكلام:
أروى
نعم، كانت حقا هي أروى، منية النفس التي توقفت عند عينيها قديما رحلة عمره، وهاهي الاعوام تكر وتفر سريعا وكان لها أجنحة تطير بها كالعصافير، وهاهي الافلاك تدور دورتها التي اخذت معها المصائر إلى حيث شاءت، وعملت فيها تغييرا وتبديلا وتحويرا، فهل حقا اطفات هذه الايام اثناء مرورها او هذه الافلاك اثناء دورانها، جذوة تلك العاطفة التي احرقت صدر الفتى؟ لكن الذهول مازال مقيما في عينيه وهو يراها ماثلة امامه. لم يكن هناك احد من الحاضرين يذكر القصة القديمة، عدا رجل واحد ممن كانوا يرافقون السيدة أروى في جولتها ذلك اليوم، هو الشيخ سعيد بن وسيم الويغوي، فهو من جيل حضر طرفا من القصة، لذلك فقد خفض بصره في الارض وهو يشهد الموقف الذي يعاني منه العاشق القديم.
لم تشأ أروى ان تترك زهير على هذه الحالة، التي تدرك أنها نتجت عن صدمة المفاجاة، فلا وجود، كما ترى، لاي احتمال بان يكون الرجل سجين حالة الصبي المراهق وعشقه القديم، وان جمر ذلك العشق مازال مشتعلا في وجدانه، فما اعتراه الان ليس الا حالة طارئة ستنتهي بانتهاء لحظة المفاجأة. سالته في ود، وباسلوب عفوي، لا افتعال فيه، إن كان بامكانها ان تقدم اية خدمة له، او قضاء اي مصلحة من الدولة او من ابن اخيها الإمام، وكان زهير قد سيطر على نفسه، فبادر إلى شكرها قائلا ان اهل قنطرارة يحيطونه بما يحتاجه من رعاية واهتمام، ولا يريد منها الا ان ترفع اخلص تحياته وتقديره لابن اخيها الإمام. فودعته قائلة انها في سبيلها إلى زيارة الاراضي المقدسة لاداء فريضة الحج، وانها اذا كتبت لها السلامة فستعود من نفس الطريق، وستحرص على ان تمر عليه، وتحضر له مسبحة من ارض الرسول وجرعة من ماء زمزم. فتمنى لها حجا مبرورا وسلامة في الذهاب والعودة.
وكانت قد وصلت منذ يومين لقضاء استراحة في البلدة مع قافلة الحجيج القادمة من تاهرت، والتي تستانف مع فجر الغد مسيرتها.
ورقة رابعة من دفتر الشاعر
يحلو لي ان اجوس بين احياء تاهرت الجديدة، لارى كيف استطاع كل قوم ان ينقلوا شيئا من ذوقهم وثقافتهم ولون بلادهم ونكهتهاالاصلية إلى عاصمة البلاد، واضافوا بها لونا ونكهة اليها، وشخصية تتميز بها المنطقة التي يسكنونها، فهاهم اهل البصرة، يحاذون الماء ويتلمسون طريقهم اليه ببناء بيوت على حافة البحيرة،لها طابع مدينة البصرة ومعمارها، وشرفات تلامس الماء كشرفات بيوتهم التي غادروها هناك، يعيدون نسخها هنا، بينما ارى اهل جبل نفوسة يفتحون، دون ابطاء، طريقا من حيهم إلى الجبل، مسرعين بالالتحاق بصخوره، مستعجلين على تشييد ابنية تتسلق قدمه، كانهم لا يطيقون الارض السمحة المنبسطة، ولا البيوت التي لا تحفها المنعرجات والانبعاجات صعودا وهبوطا، ناقلين معهم مظهرا صوفيا يتجلى في تقشف بيوتهم وبساطتها، وخلوها من الزينات والزخارف، بينما تظهر الفخامة والابهة، ولمسة البذخ والثراء، في الاحياء المغربية، حتى لو كان هذا المغربي القادم من فاس او مكناس فقيرا يعمل كناسا، فهو يحيط نفسه بمظاهر الرخاء والرفاهية، ولهؤلاءالمغاربة فضيلة استنبات اجمل وابهى وارق شجرة عرفتها تاهرت، هي مسك الليل، ذات العبير الجميل الذي يفوح ليلا، فلا يقتصر عطره على الاحياء المغربية وإنما يضوع في كل ارجاء تاهرت،ولم استطع صبرا حتى حصلت على شتلة زرعتها امام بيتي وصرت مستمتعا بنكهتها، احسها في خياشيمي طوال ساعات الليل، بينما لا يبحث اهل الاصول النجدية والحجازية الا عن الفضاءات والبراحات حتى لو ابعدهم هذا البحث كثيرا عن وسط المدينة، يشيدون وسطها بيوتهم، كأن الصحراء هوية ملتصقة بجلودهم، وجزءا من متاعهم يرحلون به وينقلونه إلى موطنهم الحضري الجديد، وهم اول من غامر باقتحام مناطق في احواز تاهرت، اقرب في طبيعتها إلى المراعي، يقيمون فيها محاطين ببراحاتها الشاسعة التي تستوعب ايضا قطعان اغنام يربونها، ويجلبون بعض حليبها إلى السوق،ثم اضافوا الابل إلى مراعيهم وواصلوا ايضا جلب الفائض من حليبها إلى الحوانيت.
اليهود ايضا صار لهم حي، الا انه لا طابع خاص له، وإنما اقتبسوا طابع بيوتهم من مختلف اوطان الاصل التي جاءوا منها، فهذا يصنع بيته كأنه موجود في سيبيريا مكتوما منغلقا على نفسه، كأن العواصف سوف تقتحم عليه البيت، مع ان طقس تاهرت لا علاقة له بعواصف الثلج التي كانت تداهم اسلافه طوال ايام السنة، وترى بيت يهودي آخر جاء من العراق كأنه على ضفاف نهر دجلة او الفرات اتساعا وانشراحا، يفتح احضانه لاستقبال الشمس والهواء، اما البيوت التي هي فوق الاعتبارت الجهوية والاقاليم والاقطار التي جاء منها اصحابها فهي القصور، لانها تنتمي إلى جنس عالمي يسبح فوق هذه التفاصيل، ويتسامى عنها، حدائق تمتليء باشجار فاكهة وزينة، ونوافير ماء تتسلق الهواء، وجداول تجري تحت الشرفات والاشجار، ووطيور ذات شذو والوان، يتوسطها بيت شامخ سامق للتاجر بن وردة، هو زينة حي القصور، لا يخطيء من اعتبره قطعة من الفردوس، فاللهم لا حسد.
هناك صرعات داهمت المدينة، لا ادري ان كان جائزا نسبتها إلى هذه الاقوام، فهل يمكن نسبة الصرعة التي ظهرت حديثا، وهي صرعة سباق الهجن، إلى اهل نجد والحجاز، وعشقهم للابل والعابها، وهناك صرعة اخرى، اقدم قليلا من صرعة الهجن، وليست بدوية مثلها، إنما ذات طابع حضري، هي لعبة الشطرنج، فهل يمكن نسبتها إلى جالية صغيرة جاءت من بلاد الفرس،وتخصصت في صناعة البسط والجلد، بتشجيع من الإمام المؤسس، باعتبار اصوله الفارسية، ورغبته في ان تستفيد بلاده من الصناعات التي اشتهر بها اجداده، كما استعان بخبرتهم في اعمال الدواوين وانظمتها، وبدأت لعبة الشطرنج تتسل من دوائرهم الخاصة، إلى الدائرة الاوسع، حتى اصبحت هوى الناس في تاهرت، إلى حد انهم يعتبرونك ناقصا في اهليتك او شخصيتك او تعليمك، اذا لم تكن تتقن لعبة الشطرنج،
ولمن ترى نستطيع ان ننسب لعبة الرماية، فلقد ظهرت اركان في الحدائق العامة، تجعل من الرماية تجارة، بعد ان كانت جزءا من التدريب العسكري، في مراكز تدريب الدولة ومدارسها الملحقة بالجيش، وجعلها بعض الناس هذه الايام بيعا وشراء، فهم يؤجرون النبال والسهام ويضعون هدفا في البعيد، لوحة فوقها دائرة ونقطة داخل الدائرة، وياتي الشباب يتبارون ويتراهنون ويدفعون لصاحب الكشك، او صاحب هذه التجارة. والدولة لا تعتبر هذه الرهانات قمارا، برغم ما يقوله بعض خطباء المساجد، الذين يهاجمون وجود هذه الصرعة في البلاد، الا ان الدولة لا تقيم لهم اعتبارا، وتراه شيئا ايجابيا ان ينشغل شباب المدينة بهذه الهواية، لانها تتفق مع سياستها في تاهيلهم لمثل هذه المهارات الدفاعية العسكرية التي قد تصبح ذات فائدة في اوقات الاحتراب، والحاجة إلى الدفاع عن البلاد. وبجوار هذه الصرعة، كانت الدولة تقوم بتشجيع هواية اخرى، خصصت لها اركانا في الحدائق، بل وكانت وراء تسهيل بيع الجياد التي انتهت مهمتها في الجيش، إلى تجار استفادوا من هذه الهواية وجعلوا لها منتديات ووضعوا قواعد لممارستها، هي هواية ركوب الخيل، لخدمة ذات الهدف العسكري.
لم اكن شخصيا صاحب ميل لهذه السباقات، وارتياد حلباتها، والحلبة الوحيدة التي اقبل عليها، هي تلك التي اسابق فيها بعض اهل الغواية والافتتان بالنساء، لكن لهذه الهواية عدو هو الزمن، ليس لان الجميلات يكبرن سريعا ويضيع جمالهن، ولكن لاننا نحن ايضا نكبر او بالاحرى نشيخ، ويلحق الوهن اجسادنا، ويتسلل إلى قلوبنا، فنركن إلى ركن دافيء في البيت نرتاح اليه، ويصبح السرير هو المكان المثالي والافضل لقضاء اوقات الفراغ.
لن اختم هذه الورقة قبل الاشارة إلى فصل مؤسف حصل في حقل الفكر والعلم، فلعدة اسابيع، اتردد على قاعة المحاضرات في المعصومة، فاجدها مقفلة، لان روادها يرفضون ارتيادها، تعبيرا عن سخطهم واحتجاجهم على ما حدث، ويشترك في هذا الاحتجاج الجمهور واهل المنصة ممن يقيمون الامسيات والقاء المحاضرات، والسبب هو اجراء اتخذه الإمام مفلح، ضد زميلنا وصديقنا، وصاحب الشعبية الطاغية بين اهل الفكر والعلم، وهواة الندوات والامسيات الشعرية، نفات بن نصر القنطراري، واعتبره الإمام عدوا للدولة، وهو الرجل الذي قاد النهضة الفكرية والثقافية في البلاد على مدى عدة عقود، واوصلها إلى مشارف عالية بفضل ما يؤمن به من حرية العقل والقول. ولان خلافا نشب بينه وبين الإمام مفلح فقد نقم عليه هذا الإمام وناصبه العداء، دون اعتبارإلى انه كان رفيقا وصديقا لوالده، ومحل ثقته وموئل سره طوال حياته. والارجح، كما يرى البعض، انها الغيرة اكلت قلب الإمام مفلح، فاتخذ موقفاعدائيا منه، جعل الشيخ نفات، يغادر إلى قنطرارة، وسعى هناك لاثارة الناس ضد الإمام، طاعنا في وجوده اماما، لانه هذه المرة جاء عن طريق التوريث، وهو مبدأ ينكره المذهب الاباضي انكارا كاملا، خاصة انه لم يتذرع باية ذريعة كما كان الحال مع والده، وإنما جاء توريثا واضحا سافرا لا سبيل لمداراته باية اعذار. وهو امر زاد من سخط الإمام عليه، فاصدر قرارا يعتبره مارقا على الدين، خائنا للدولة. فخشى الشيخ نفات على نفسه من القتل، وكانت في حوزته دعوة من علماء البصرة، علمت انه اتجه إلى هناك تلبية لها، وسوف يظهر في البصرة قريبا، وسيكون له شان هناك، وسوف تاتي اخبار فتوحاته العلمية التي لن يستطيع الإمام ان يفعل امامها شيئا سوى المزيد من الغيرة والمزيد من الضيق من نجاحات هذا النابغة من نوابغ جبل نفوسه، الذي سيكسبه العراق وتخسره الدولة الرستمية، وهاهي قناديل العلم والفكر التي اشعلها هذا المفكر النابغة، في العاصمة تاهرت، مطفأة للاسف الشديد لتحل بدالها العتمة.
كابوس بلا انتهاء
كانت المفارقة التي لا يجد لها الشيخ سعيد الويغوي حلا، هي هذا الكابوس الذي تمضى السنون، وهو ما زال يظهر له كل ليلة، في تناقض وتقاطع مع واقع حال الدولة، التي كانت منذ ان داهمه هذا الكابوس، وعبر عدة عقود، لا تزداد الا قوة وازدهارا.
لقد اعطاه الله طول العمر، ومع هذا الطول اعطاه سمعا جيدا، وقدرة على المشي، فيذهب إلى المسجد، ويؤم بالناس الصلاة، ويجلس بضع ساعات للافتاء، ويستقبل اهل العلم ممن يحملون له استفسارا او سؤالا، او يطلبون شرحا لمسألة فقهية، بعضهم ياتي من العاصمة، باعتباره اصبح الان المرجع العلمي الديني لكافة بلاد الرستميين. البصر فقط هو الذي تضاءل وصار شحيحا، إلى حد هجر معه القراءة، ولم يبق غيربصيص يعتمد به على نفسه، في الوضوء والصلاة، وربما اضحى عصيا عليه الخروج إلى الشارع دون معين.
تطير كثيرا عندما جاءت الاخبار عن مباذل يرتكبها حاكم استلم الحكم في القيروان، يحمل اسما يشبه اسم المؤسس لدولة بني الاغلب، إبراهيم بن أحمد الأغلبي، وتؤكد هذه الاخبار ان بالرجل لوثة عقلية تجعله يجتريء على قتل اقرب الناس اليه، بينهم ثمانية من اشقائه،ارداهم بدم بارد، وابن من ابنائه الذكور، وكل بناته، وهي علامات تنبيء ان هذا الحاكم سيكون مصدر بلاء لاهله وجيرانه، ويستغرب الشيخ كيف يرضى رجال بني الاغلب بجنون الاجرام يرتكبه هذا الحاكم، وكيف يامن له اهل البلاط ولا يسعون متكاثفين لاسقاطه واقصائه من الحكم. نعم، يقول الشيخ، متمثلا حلمه الذي يرسل طيور البوم تقض مضجعه وتملأ ساعات نومه بالنحس والشؤم، والنذر السوداء، بان هذا اليوم الاسود اذا كان حقا سيأتي، فلن يكون مصدره الا القيروان، عن طريق مثل هذا الحاكم المجنون، فهو لن يكون امينا على اية معاهدات ولا اتفاقيات، ولابد من اخذ كل اسباب الحذر والحيطة من جانبه، وهو ماصار الشيخ يقوله لزواره ويسألهم ان يصلوا به إلى اهل السلطة في الجيش والدولة، ويطلق الصيحة وراء الصيحة:
احذروا مجنون القيروان. احذروا مجنون القيروان.
ولم يمض طويل وقت، حتى تواترت الاخبار، تؤكد صدق تحذيرات الشيخ، وتقول ان الامير المجنون، ادخل بلاده اجواء الحرب، وان هذه الحرب التي يهيء لها، سيشنها، كما يقول، على خصمه في مصرالعباسَ بن أحمد بن طولون، لضغينة قديمة بينهما، لكن جنونه لم يكن ليقف عند حد بعينه، فقد اضحى يتخذ مواقف عدائية من جيرانه، بحجة تسخير اقتصاد البلاد لدعم الجهد الحربي، فمنع اي تبادل تجاري مع دولة الرستميين، وفرض حظرا على دخول البضائع من تلك الدولة إلى القيروان والساحل التونسي، كما منع خروج البضائع من هذه المدن إلى بلاد الجريد وحواضر النفوسيين، مما ارسل موجة من الغضب في اوساط التجاريين في هذه المناطق، واستنفر اهل الجريد وجبل نفوسه، واعتبروه عملا من اعمال العداء ضدهم، بل واعلن العسكريون حالة الطواريء واقاموا مراكز للتجمع العسكري في عدد من المناطق استعداد لملاقاة جيش ابن الاغلب عند بداية خروجه في حملته المصرية.
عرف الشيخ سعيد بان اكبر هذه المراكز الذي يضم مقاتلي نفوسه موجود في يفرن، اكبر المدن في الجبل، واكثرها اكتظاظا بالعسكريين، ونقطة ارتكاز اهل التشدد، والدعوة لمواجهة مجنون الاغالبة وايقافه عند حده، ولم يكن الشيخ سعيد من هذا الراي، ولا يرى فيه الا بحثا عن الشر ومجلبة للمهالك، بل اكثر من ذلك يشعر ان اي عمل من اعمال العدوان ضد جيش الاغالبة، سيكون الخطوة الاولى نحو تحقيق الكابوس اللعين الذي يرى فيه خراب الجبل، ومن بعده دمار الدولة الاباضية. فهو يعرف بخبرته العسكرية، القوة الضاربة التي صار يحتكم عليها جيش الاغالبة، وكيف ان مستعمراته الاجنبية امدته بخبرات وتقنيات حديثة، لن يستطيع جيش من جيوش المنطقة، بمفرده،الوقوف امامها، الا اذا حصل تحالف بين دول المنطقة مثل الرستميين مع الصفريين والادارسة وتصدوا مجتمعين لهذا الجيش، لا ان يتصدى له جزء من الجيش الرستمي يقتصر على اهل الجبل بدعم من اهل الجريد. وتناهي اليه ان هذه المراكز العسكرية، سوف تبدأ منذ الغد في حشد صفوفها، والتجمع في نقطة على التخوم الغربية للبلاد، مع ما تم استنفاره من عساكر في مناطق الجريد، وبدا واضحا ان اذنا بالدخول في المعركة قد تم اتخاذه على المستويات العسكرية العليا في العاصمة تاهرت، واوكل التنفيذ للقوة الموجودة على ارض المنطقة، وربما كان هناك اتفاق على مدد سوف يبدأ في الانطلاق من العاصمة لتعزيز الجيش الرستمي الذي سيباشر الاشتباك، وراى هو بعين الرجل الذي امضى ما يقرب من قرن من الزمان في هذه الحياة، ان الشؤم قادم في ركاب هذه الحرب، ولابد من مسعى يقوم به حالا لتدارك الكارثة، فوقف في اكبر ساحات قنطرارة وامام جامعها الكبير، وقد احتشد حوله الناس يصيح فيهم قائلا:
انني رجل كفيف، بالكاد ارى اشبارا امامي، لكنني ابصر العواقب الوخيمة التي ستاتي من وراء الحرب التي يعدون لها، الا وجود لاحد في هذه البلاد، في راسه بقية من عقل، يزن به الامور، ويعرف ان الوقت ليس هو الوقت المناسب، للدخول في حرب مجنونة مع هذا المجنون.
كان الناس الذي تحلقوا حوله، ومنهم علماء من تلاميذه، يتعاطفون مع دعواه، لكن ليس في ايديهم حول ولا قوة، حتى مقاتلو قنطرارة انفسهم، موجودون الان في مراكز الإعداد والتعبئة، التي ستبدأ الانطلاق غدا. وصاح في واحد من اولاده، يسأله ان يعد له راحلته، لانه يريد ان يقضي هذه الليلة ضاعنا إلى يفرن، سوف يركب احدى النوق، وامامه ابنه فوق جواده يقود الناقة إلى مركز التجمع العسكري في يفرن، سيغد السير ليلا ليصل مع الفجر إلى جامع يفرن، ومع شروق الشمس وقبل انطلاق الجحافل إلى النقطة الحدودية بين الجريد وجبل نفوسه، سيخاطبهم ليثنيهم عن نية الحرب، وان يكتفوا بالبقاء حراسا على تخوم دولتهم، فلا يبادرون بالهجوم على جيش الاغالبة وهو يسير في طريقه نحو هدف بعيد عنهم، ولا يعترضون طريقه، الا اذا جاء إلى حدودهم، للاعتداء عليهم.
وانطلق بعد صلاة العشاء، راكبا راحلته، يتعقب خطوات الجواد الذي يمتطيه ابنه، صاعدا الهضاب، هابطا مع المنحدرات،حتى وصل متعبا دون نوم إلى جامع يفرن وقت السحر، فاخذ غفوة صغيرة، قام بعدها للوضوء والصلاة، وقد فوجيء المصلون بوجود هذا القطب من اقطاب العلم، فقدموه ليؤم بهم صلاة الفجر، واخبرهم بسبب مجيئه، طالبا منهم ان يقودوه إلى المكان العسكري، وكان يضم ثلاثة الاف مقاتل، كلهم كانوا قد امتطوا جيادهم، وتمنطقوا بدروعهم، ووضعوا النبال في جعابهم، والسيوف في خواصرهم، والرماح تطل من فوق هاماتهم، وهيأوا له مكانا عاليا يستطيع ان يشرف منه على عموم الفرسان، الا ان صوته الذي اوهنته الشيخوخة، لم يكن بالقوة التي يستطيع ان يصل بها إلى كل الحاضرين، فجاءوا بمؤذن الجامع، يقف بجوار الشيخ يعيد بصوته القوي الجهوري، كلماته التي بدأت تسرى مع انسام الصباح، فسمى باسم الله وصلى على نبيه، وقال انه لا يخاطبهم باعتباره عالما قضى عشرة عقود في رحاب القرآن والسنة والشريعة، ولا يخاطبهم باعتبار ما عاشه من تجارب عاصر فيها بداية مولد الدولة الاباضية ونموها وازدهارها، واضعا يده على صدره خوف المكائد ومكر الاعداء ومؤامرتهم، التي كانت تحيط بها، لكنه يخاطبهم هذه المرة باعتباره رفيق سلاح، وقائدا عسكريا، حقق لبلاده نصرا سجله التاريخ، ضد الدولة نفسها التي يستعدون لحربها، ويقول لهم ان الزمان غير الزمان، والقضية غير القضة، واذا كان قد رأى النصر قادما في تلك المعركة، فانه لا يراه الان بذات القوة والوضوح، فقد كان اهلهم في تلك الحرب يردون هجوما على ديارهم، واليوم هم الذين يذهبون للمبادرة بالهجوم، كانوا اصحاب حق، يرجون النصر، فاستجاب الله لهم، لا اصحاب عدوان قد ينكر الله عليهم فعلهم، ومع الحق ثمة اسباب اخرى لا يراها موجودة الان، احداها الخطة التي استدرجوا بها العدو لكي ياتي إلى موقع قذائف النار، وصخور المنجانيق، التي اعدوها فوق قمة الجبل، وهو امر ليس متيسرا لمن يبتعد عن هذه التخوم وهذه الجبال، وهناك مجنون في القيروان، اسكرته قوته العسكرية، ويريد ان يسوق هذه القوة إلى حرب مع مصر، ونصحهم الشيخ سعيد ان يتركوه يمضى في طريقه وفقا لما قاله الاسلافل في ماثورهم : "اللهم اضرب الكافرين بالكافرين واخرجنا منهم سالمين". وقد اثنى الشيخ على حماسهم، وغيرتهم ونبل مقاصدهم، قائلا لهم انه لا يريدهم ان يضعوا هذه القيم النبيلة الخالدة، قيم التضحية والفداء وحب الوطن، في غيرالمكان الذي يصونها ويحفظها، وإلا سيكون اهدارا، وخسارة، ثم اختتم حديثه قائلا
اذهبوا على بركة الله إلى تخوم الوطن، وقفوا هناك على اهبة الاستعداد للذود عن حياضه والاجهاز على من يريد الاعتداء عليه او الاضرار به. لا تذهبوا للمجنون في ارضه ولا تقتحموا عليه حصونه، ولا تستهينوا بما اقوله لكم. يعلم بعضكم انني عشت اغلب اعوام حياتي ارى كابوسا يتكرر كل ليلة، ولا اريد لهذا الكابوس ان يتحول إلى حقيقة بسبب مغامرة غير محسوبة مع مجنون الحكم في القيروان.
اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد
اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد
وهبط من فوق المنبر، واخذه ابنه متجها به إلى الراحلة التي جاءت به من قطرارة. اراد ابنه ان يقود الراحلة راكبا جواده، فخاطبه ابوه يطالبه ان يبقى، لان مكانه مع بني قومه، مقاتلا بين مقاتليهم، شريكا في النصر او الهزيمة، في الحرب او السلم، والا يشغل نفسه بابيه، فقد احتاج اليه في السفر، من قنطرارة، لكن ناقته تعرف الطريق اليها، وسيركبها ممسكا الرسن، فتمضى في طريقها حتى تصل به امام البيت،
ثم عانق الوالد ابنه متمنيا له الفوز والسلامة.
لم يكن وهو يعتلى ظهر الناقة عائدا إلى بيته، واثقا ان كلامه سيكون له اثر في قلوب المقاتلين، فاللحرب فتنتها، ولا سبيل لاحد مثله ان يحارب غوايتها اذا لعبت بقلوب الرجال، وسيمضون في طريقهم حتى تقع الكارثة فوق الرؤوس، والعياذ بالله.
انه لا ينسى ما قاله البهلول محمد القنطراري رحمه الله، عندما اخبره انه سيعيش ليرى الكابوس يتحقق، اليس هذا هو المدى الطبيعى لاخر العمر، الذي بحلوله تحل الكارثة، فهل سيعيش اكثر مما عاش، وهل ثمة مجال لتلافي مأساة يرى اهل بلاده يمضون اليها بعيون معصوبة كالسائر نائما إلى حتفه؟
وصل الشيخ إلى بيته مع منتصف النهار، وبعد غفوة القيلولة، التي عوض بها شيئا من سهر الليلة الماضية، ذهب ليجلس في المحراب الحجري امام الجامع يتسقط اخبار الذاهبين إلى الجبهة. سأله احد الجالسين على المحراب ان كان قد حقق شيئا في جهده لايقاف الحرب. فقال يخاطب الرجل
انه سهم وقد خرج من قوسه، فهل تستطيع ارجاع سهم انطلق من القوس؟
اجاب الرجل في اذعان واستسلام:
انه المستحيل
هكذا كان حالي وانا اذهب إلى يفرن، ربما لم اكن اعرف ان السهم قد انطلق.
ليس امامنا الا ان نسأل الله العفو والعافية.
نعم، لنسأله ما نشاء ان نسأل، وقد حذرنا جل وعلا قائلا " ولا تلقوا بايديكم إلى التهلكة" فهل نسال بعد ان نفعل ذلك، عفوا او عافية؟
اللهم لا نسألك رد القضاء، لكن نسألك اللطف فيه.
فقال الشيخ سعيد كأنه يخاطب نفسه:
ملائكة الحلم لم تقم باختياري من فراغ. لقد اختارتني لانها تعرف انني من جيل انقرض، سابقى لاشهد الكارثة، واكون النذير.
وربما هذا ما كان يقصده المرحوم محمد القنطراري.
رحمه الله، كان وليا من اولياء الله الصالحين.
يقول اهلنا الحق على صاحب العقل، ومعنى ذلك انك تخطيء عندما تعامل المجنون، بنفس اسلوبه، لانه اصيل في جنونه، وانت ستفتعل الجنون افتعالا، والاصيل دائما يفوز على صاحب الاصطناع والافتعال.
لعل الله يأذن بالنجاة.
قال الشيخ يدلي بخلاصة ما انتهى اليه:
يعلم الله، ان قنطرارة عارضت هذه الحرب، التي اجمع على خوضها بقية النفوسيين، وسندفع الثمن جيمعا، سيذبحون البقرة، وسيتبعونها بوليدها قنطرارة.
وعاد يكرر الجملة التي ختم بها خطابه في يفرن:
اللهم قد بلغت. اللهم فاشهد.
مجنون القيروان
لم يبق في جامع قنطرارة الا شيوخ طاعنين في السن، اغلبهم من معلمي القرآن للاطفال، يذهب بعضهم لتقديم حصص تعليم الصغار في المدارس الدينية، او للتناوب على القاء خطب المواعظ امام شيوخ مثلهم في الجامع. وفوجيء الشيخ سعيد، برجل يلقي التحية، يعرف صوته جيدا، تقدم يقبل يده، واخذ مكانه على المحراب بجواره، انه ابن اخيه المرحوم ابان، ابوذر الذي يتولى مهمة الوالي في الجبل، ظنه احد المنخرطين في الجبهة، وعرف منه الان انه تخلف لتنظيم خطوط الامداد تموينا واسعافا عند الحاجة، اذ بدأ فعلا في تهيئة الاماكن لاسعاف الجرحى الذين سيتم نقلهم بالجياد من ارض المعركة، إلى مستشفيات الجبل، واحداها مستشفى ميمونة في قنطرارة، الذي كان عيادة للتداوي بالاعشاب، ووفاء لذكرى المرأة الصالحة، وللصلة التي ربطتهما ببيت الإمام المؤسس، ارادت السيدة أروى عند عودتها من رحلة الحج، ان تقدم خدمة للبلدة، باحالة تلك العيادة إلى مستشفى على الطراز العصري الحديث، فدعت إلى اكتتاب عام لبنائه على ارقى مستوى، واجمل معمار عرفته العاصمة، ليسمى باسم صاحبة العيادة القديمة، حفظا لذكراها، واعترافا بكريم خدماتها للدولة وامامها المؤسس، وقد استوى منذ سنوات مضت، مستشفى يقصده الناس من كل مناطق الجبل، ويعمل به عدد من اهل الخبرة في الطبابة، المجلوب اغلبهم من وراء الحدود، وسيكون اثناء هذه المواجهة العسكرية التي تدخلها البلاد، هبة الهيه لاسعاف الجرحى، بما يتوفر فيه من طب حديث وتقنيات متطورة، يتيح له التعامل مع اكثر الحالات حرجا وخطورة. وذكر السيد ابو ذر في حديثه إلى عمه، انه عائد لتوه من تفقد المستشفى، الموجود في حالة استنفار، لا يغادره طاقمه الطبي ليلا ولا نهارا، كما قام بتفقد مخازن جاهزة لامداد المعركة بمزيد من التموين عند الحاجة، وعندما سأل العم ابن اخيه الوالي عما اذا كان هناك اي امل في ان يكتفي المقاتلون بالوقوف عند التخوم، يحمون حدود بلادهم، دون حاجة لاعتراض امير بني الاغلب، في حملته قاصدا مصر، قال له ابوذر، ان قادة الجيش يعتبرون ان العدوان قد حصل، وان الاستيلاء على القوافل ومصادرة السلع والبضائع، هو عمل من اعمال الحرب، ويتوقع ان يحدث اول اشتباك، يوم الثلاثاء، اي بعد يومين، الا انه لا يستطيع تحديد الموقع، لكنه سيكون في منتصف المسافة بين القيروان و ارض السباخ المتاخمة للحدود الطرابلسية، وهي منطقة عامرة بالابار ويمكن لكل من الجيشين ان يفلح في تامين حاجته من الماء، ومعنى ذلك ان قنطرارة، ربما تكون اقرب نقاط الجبل إلى ارض المعركة، والتي يقصدها الموكلون بانقاذ الجرحى. وسأل الشيخ سعيد ابن اخيه عما يجعل العسكريون النفوسيون، متحمسين للحرب، كانهم حقا واثقون من النصر، ومن اين في ظنه جاءت هذه الثقة، فرد قائلا بانه يقدر ان المعركة تستمر لمدة اسبوع على الاقل، يكون خلالها الامداد العسكري الذي تحرك من العاصمة قد وصل، مما يجعل فرص النصر تميل لصالح الجانب النفوسي الجريدي الرستمي، اكثر من جانب الاغالبة، اضف إلى ذلك انهم يعرفون ان قائد بني الاغلب رجل مختل العقل، اثار سخط اهله واعوانه قبل سخط الاغيار والاغراب، وهم يثقون ان قادته وجنوده ينتظرون فرصة للتخلص منه، وسوف يقومون بالثورة عليه ويجدون في هذه الحرب فرصة سانحة للتخلص منه. الا ان عمه الشيخ ارسل ضحكة ساخرة مريرة،
تهزأ من مثل هذا التقييم، لان هؤلاء الاعداء، حتى لو كانوا يخططون للتخلص منه، فانهم عندما يرون غزوا اجنبيا لبلادهم وهجوما على جيشهم، سيتشبتون مزيد التشبت بقائدهم، ويحاربون جيش العدو تحت امرته، ومعنى ذلك ان اصحاب هذا الرأي يخطئون مرتين، مرة بالمبادرة بالحرب، وثانية بتوقع انها ستشق صف العدو، بيما هي اكبر دافع لتوحيده.
ذهب نائب الإمام، بعد الصلاة، يواصل عمله الذي تحتاجه المعركة خلف الخطوط، وظل الشيخ سعيدعلى قلق ينتظرما يمكن ان يرشح من اخبار الجبهة، ولم يكن ممكنا ان يعرف شيئا قبل يوم الثلاثاء، بل ان يوم الثلاثاء ذاته، باعتباره اول ايام الاشتباك، لم يكن متوقعا ان تصل اخبار عنه، الا بعد انقضاء النهار، ووصل في فجر اليوم التالي اول القادمين إلى المستشفى، فارس يحمل قائدا جريحا، هو الشيخ ابو يحيى، العالم الجليل الذي كان قد اخترق سهم خاصرته، وجاء به احد جنوده مسرعا فوق جواده، يركض اغلب الليل من منطقة قصر مانو، قاطعا سهل الجفارة، حتى ارتقى الجبل، ووضع الشيخ الجريح، قبل ان يكمل نزف دمه، بين عناية الاطباء، الذين عكفوا على انتزاع السهم من حوضه، وتعويض الدم المفقود من جسمه بمواد تعينه على الاستمرار في الحياة، ومعالجته بالمراهم وتخفيف المه بالمسكنات، وعندما اطمأن الجندي إلى زوال الخطر عن قائده، انتقل إلى الجامع للاغتسال والصلاة واخذ قسط من الراحة، بعد ان نال هو ايضا بعض المراهم لازالة التعب الذي اصاب مفاصله، وتناول وجبة من طعام المستشفى، اذ انه لم يكن من قاطني قنطرارة، او يملك اهلا او بيتا فيها، وفي الجامع التقي بالشيوخ الذين واصلوا الجلوس منذ الفجر يتسقطون اي خبر ياتي من ارض المعركة، فحكى لهم الجندي عما حدث، قائلا انهم ساروا باتجاه القيران، لاعتراض جيش الاغالبة، وارسلوا امامهم فريق الاستطلاع الذي عاد يقول ان الجيش المعادي على بعد مسيرة نصف يوم، وانه يفوقهم عددا، فقد استطاع النفوسيون واهل الجريد، جمع سبعة عشر الف مقاتل، وتصل اعداد الجيش القادم خمسة وعشرين الف حسب تقدير فريق الاستطلاع، "فقررقادتنا" كما يقول الجندي" انتظار جيش ابن الاغلب في منطقة قريبة، تتميز بقصر اثري، اسمه قصر مانو، بسبب وجود عدد من الصخور والجدران والاعمدة المتناثرة على مساحة كبيرة لاستخدامها متاريس لاتقاء السهام والنبال، والقيام بعمليات الاسعاف خطوط الامداد والتموين محتمين بها، مع وجود اكثر من بئر ماء، فتم نصب الخيام، وانتظار الجيش الذي كان يحث الخطى قادما باتجاهنا، وبدأ الاشتباك، في ضحى يوم الامس الثلاثاء، لكن الكفة بدأت بسرعة تميل لصالح كثرة العدد والعتاد، كنا قد هيأنا انفسنا لمعركة تستمر عشرة ايام، يكون قد وصل خلالها المدد القادم من العاصمة، لكن المدد اليهم كان اسبق، لانني وانا اضع الشيخ ابويحيى فوق جوادي لاسعافه، كانت الاصوات تتعإلى بان جيشا وصل من القيران لدعم الجيش الذي يحارب، ربما لا يقل عن عشرين الفا، وهو دعم لا يأتي إلى جيش مهزوم، وإنما إلى جيش منتصر، ومعنى ذلك انه لم تكن هناك فرصة لاي صمود يحققه جيشنا، والاحتمال الوحيد هو انه سيسحق سحقا، وخلال يوم واحد بعد وصول هذا المدد، يعني نهار اليوم الاربعاء، ويبدو ان الامير المخبول، لم يترك احدا في بلاده لم يحشده للجيش، بما في ذلك صبية دون البلوغ. جميع قادتنا يحظون على الصمود، ويرشقون العلم في مكان يصعب تحريكه، لانهم يعرفون ان عقيدتنا الجهادية تمنع على الفارس ان ينسحب او ينجو بحياته اذا كان العلم موجودا، فكأن وجود العلم دعوة لانتحار رجالنا بلا جدوى، قتلى بلا ثمن ولا عزاء. هذا هو حالنا."
تركوه يكمل كلامه دون مقاطعة، ثم انخرط يبكي، وتأكد ما قاله في اليوم التالي، اذ لم ينقض يوم الابعاء، ويأتي صباح الخميس الا وجاء من تبقى على قيد الحياة من اجناد الجبل يجرون بعضهم بعضا، يحملون جرحاهم، وتركوا اثنى عشر الف قتيل مطروحين في الخلاء، طعاما لضباع البرارى وذئابها. وصلوا ينزفون دما، ويبكون دموعا من دم، ويصرخون من الام الحرب والام الطريق ويندبون موتاهم، والنساء ياتين منحدرات من الجبال يتلقينهم قبل وصولهم نائحات مولولات، وتحول جبل نفوسه، باريافه وحواضره إلى مأتم كبير، ومناحة لا تتوقف ليلا ولا نهارا.
نكبة قنطرارة
اجهزمجنون القيروان، كما يسميه النفوسيون، في يوم وبضع يوم على جيشهم وجيش اهلهم القادم من الجريد، ليستأنف مسيرته التي كان قاصدا بها ارض مصر، ولم يكن احد يعلم، ان معتوه بني الاغلب، يمكن ان يرى لنفسه مهمة في جبل نفوسه، بعد ان الحق بهذا الجبل كل انواع الكرب والبلاء، وان يرى بعقله المختل، المتعطش للدماء، ان مهمة التنكيل بهم لم تنته بعد، فيقود جيشه إلى قلب الجبل، ويعرف ان البلدة التي تشكل مركز القيادة الدينية والسياسية هي قنطرارة، التي تحتوي على اهم المراكز العلمية واكبر مكتبة في الجبل، فيتجه اليها ليمارس على البلدة واهلها جنون الاجرام والعته. ولم يكن الشيخ سعيد بن وسيم، وهو يهجع إلى فراشه حزينا باكيا، يعلم ان هناك فصلا اكثر فجيعة والما ينتظر بلدته، حين نهض في آخر الليل على اصوات صهيل الخيول وقرقعة الابواب وصراخ النساء والاطفال، فقد اقتحم جيش ابن الاغلب البيوت ووصل احد افراد هذا الجيش إلى غرفة نومه، في حملة تجميع العلماء، وما ان جاء الصباح حتى جمع الجيش الغازي ثمانين عالما ممن منعهم العجز والاعاقة الجسدية وكبر السن عن الذهاب إلى الجبهة، ولم يشفع للشيخ سعيد الا انه كان كفيفا لم يستطع الجندي الذي جاء للقبض عليه ان يتحرك به خارج غرفة نومه، فتركه يائسا،اما هؤلاء العلماء الذين وصلوا ساحة البلدة حيث كان المجنون نفسه جالسا فوق جواده، يدير عملية الانتقام الجهنمي، من هذه البلدة المارقة كما يراها، ولم يشفع لتمانين عالما تم جمعهم امامه، لا شيخوختهم ولا عجزهم ولا اكداس اليتامي والثكإلى والمفقودين والقتلى من عائلاتهم واهلهم، فامر بوضع الكتاف في ايديهم واقدامهم، وعلى مشهد من حشود الاطفال والنساء ممن خرجوا امام البيوت يرقبون المشهد، وهم يصرخون ويولولون وينوحون كمدا وحزنا، لما جرى ويجرى امامهم، امر الامير المجنون، وهو يقهقه عاليا، بشنق هؤلاء العلماء جميعا في الحبال التي كان جنوده قد علقوها في اغصان الاشجار المتناثرة حوله، ليلحقهم باربعمائة عالم من علماء الجبل كانوا قد قضوا في معركة مانو، كأنها عملية قضاء على العلم وإفناء للعلماء في جبل نفوسه، وزاد على ذلك بان امر جنوده بحمل المشاعل التي ساروا بها إلى المكتبة لحرقها، وإلى المعهد الديني لإلحاقه بالمكتبة حرقا، بالاضافة إلى حرق عدد اخر من المدارس ودوائر الدولة، وترك النيران تستعر، وترك بعض من بطش بهم من اهل البلاد جثثا فوق ارض القرية، تطوف فوقهم الرخم والعقبان والغربان،وترك جثامين العلماء الثمانين معلقة فوق اغصان الاشجار وسط حشود النساء النائحات،والاطفال الذين يطلقون الصرخات، وانسحب بجيشه عائدا إلى الطريق الساحلي.
لم يبق لاهل قنطرارة شيئا يعيشون له او من اجله في بلدتهم، ولم يكن لمن بقى على قيد الحياة من اطفال ونساء وشيوخ التعايش مع اشباح الموتى وارواحهم الهائمة في فضاءات البلدة.
وجاءت نكبة قنطرارة لتضيف إلى احزان اهل الجبل واهل الجريد احزانا جديدة، وتدافع الناس يفدون إلى قنطرارة يحاولون تخفيف الاحزان على اهلها بما يستطيعون تقديمه لهذه البلدة التي اشعت نورا على بلادهم، وقاد علماؤها مسيرة الايمان والتقوى والصلاح، وكانوا الفقهاء والعلماء والقضاة ومعلمي القرآن لهم ولاولادهم، فكيف لا يفون حقها عليهم او يتخلون عن عونها ومساعدتها في محنتها،
وقد وصل موفدون ومعزون في من بلاد الجريد، يقولون لاهل قنطرارة انهم يهيئون لهم ديارا لإقامتهم، وعملا فلاحيا لصبيانهم ونسائهم، كما ان لديهم مهمة جاهزة لمن بقى من شيوخ يجيدون القراءة والكتابة لتأديب وتعليم اطفالهم. واستجاب اهل البلدة، او من بقى منهم، لهذه الدعوة الكريمة، التي اعتبروها انقاذا ونجدة، وباشروا الذهاب إلى مدينة نفطة، حيث سيكون مقر إقامتهم الذي اختاره لهم اهل الجريد، واستعانوا ببقية اهلهم في جبل نفوسه يمدونهم بالابل والحمير والبغال يستخدمونها في نقل امتعتهم واغراضهم، ووجدوا ان قنطرارة جديدة، مؤقته، قد اجتهد القوم في اقامتها لهم، مصنوعة من الخيام، بامل ان تتحول قريبا، إلى بيوت من الحجارة، تكون اقامة دائمة لهم.
وتشكلت وفود تحركت إلى العاصمة، لجلب العون للمناطق المنكوبة، حيث كانت استجابة الناس هناك سريعة وقوية لتقديم الاغاثة لاهلهم في جبل نفوسة وبلاد الجريد. وكانت جالية النفوسيين في تاهرت والمدن الكبري المجاورة لها، قد تنادت لوضع امكاناتها الكثيرة الوفيرة بين ايدي وفود الاغاثة، وكانت حصة كبيرة من هذه المعونات قد ذهبت إلى قنطرارة الجديدة، للمساهمة في اعادة بنائها وتخفيف النكبة عن اهلها، وكان لاهل الجريد اصرارهم على ان يجعلوا قنطرارة البديلة مركزا علميا يشع بنور الهداية والرشاد، كما كانت في جبل نفوسه، لانهم يدركون ما سيصيبهم من نفع وما يعود على بلادهم من مردود علمي على المدى الطويل.
كان الشيخ سعيد بن وسيم، قد أصيب بأزمة صحية ألزمته الفراش، بسبب ما عاناه من الم لما مر من احداث، وكان اكثرها الما وفجيعة، ما حصل لرفاقه من علماء قنطرارة الذين علقهم مجنون القيروان على اعواد الشجر، لتضاف إلى فجيعة الهزيمة ومصرع اربعمائة عالم من تلاميذه ورفاقه ايضا، فلم يستطع ان يغادر قنطراة مع الافواج التي رحلت، والتي لم تسافر اساسا الا بعد ان جاءت تاخذ منه الاذن وتطلب منه ان يكون عونا لها وسندا ومرجعا، فكان مؤيدا لفكرة مزدة البديلة في بلاد تنتمي للامازيغ الاباضيين، وارض تحقق لها انبعاثا جديدا، وربما اداء رسالة بين اناس يرحبون بالعلم والعلماء، وهو يعرف ان بذرة الخير في هذه البلدة، لابد ان تزهر من جديد، ولا بد ان يظهر من اصلاب بنيها علماء يعوضون ما فات ويحيون ذكرى من مات ويعيدون امجاد السلف من اهل العلم والهداية والرشاد. ولم يكن يستطيع اثناء مرضه ان يستقبل حشودا من اهل الجبل، ممن جاءوا اسفين نادمين، يطلبون منه المغفرة والسماح، جاءوا من ابعد الاماكن مثل نالوت، وجاءوا من جادو وكاباو وتاغمة وتاغرمين ويفرن وتندميرة، لانه عندما حذرهم، استكبروا، وصموا اذانهم عن سماع تحذيره، ونصح فامتناعوا في غشامة عن سماع نصحه، وقالها بصوت جهير واضح يكاد يكون صراخا "احذروا مجنون القيران، تجنبوا الصدام به، لا تعترضواطريقه"
وهاهم الان يتقاضون ثمن تنكرهم لنصيحته، وعدم انصاتهم لصوت العقل الذي تكلم به، والحكمة التي ارادت انقاذهم، فانكروا سماعها وبقوا في ضلالهم يعمهون، حتى وقعوا في شر اعمالهم.
اعتذر اثناء مرضه عن استقبال اي احد منهم، متاسفا ان المرض لا يتيح له هذا الترف، ولن يقول انه غفر وسامح، لان الكارثة اكبر من ان يكون بين الاهل مثل هذا الاعتذار او هذا السماح، انها اقدار عليا وقضاء حم وعم، وربما لم يكن هناك سبيل للنجاة منه ولا فكاك. لهذا فهو يقول للجميع ان ما حدث لا يجب ان يكون نهاية اهل الجبل، كما لم يكن طوفان نوح نهاية العالم، فقد استمرت الحياة بعد الطوفان، ويجب ان تستمر الحياة في الجبل بعد الكارثة، ولا بديل عن الموت والخراب الا العمل بعزيمة الرجال الاحرار والنساء الحرائر لاعادة بناء ما تم هدمة ودفن الماضي من اجل بناء المستقبل.
نعم، لقد ارتبط بقنطرارة وجعلها بلدته اكثر من ارتباطه بديجوا، وارتبط بتلاميذه فيها، واهلها، وجامعها ومركزها العلمي، المكتبة والعهد الديني، فكيف يطيق البقاء بعد ان تهدم واحترق كل هذا ومات كل رفاقه العلماء. لقد بارك رحيل اهلها إلى الارض الجديده، ووعدهم ان يكون معهم، بل ارسل بعض اهله في افواجهم الاولى، ولم يبق معه الا ابنه الذي يرعاه ويقوده، وهو الذي عاد من المعركة بجروح طفيفة، وقد تعافي منها وطاب، يقوده هذه المرة ليس إلى يفرن، كما فعل قبل الحرب، لكن إلى خارج الوطن كله، والالتحاق بوطن جديد يؤسسه الاهل في ارض الجريد.
غادر الشيخ الخرائب والحرائق ورائحة الموت واكداس الدمار والرماد، وكان يعرف وهو فوق ناقته، ترتفع به مع ارتفاع الارض، وتنخفض به مع وهادها، ان هذه ليست نهاية المأساة، وان دمار قنطرارة سيعقبه كما يقول الكابوس سقوط كل حواضر الدولة الرستمية، ولن يعزيه الان ان يسمع شائعة نقلها له ابنه تقول، ان جيش الاغالبة الذي يقوده مجنون القيروان، قد تعرض لوباء قبل ان يبلغ مصر، قضى على اغلب افراد الجيش، وربما يكون الامير المجنون نفسه احد الهالكين. لعلها لعنة قنطرارة، وعلماء قنطرارة لحقت به، لكن لعنته كانت اسبق، وانتقامه كان اكثر ترويعا ورعبا واجراما، لكن لا حذر من قدر، ولا هروب مما كان مسطرا في اللوح المحفوظ.
ادركه الليل وهو يقطع الطريق متبعا السهل، وكان ليلا معتدل الطقس، بعبق بالسكينة والسلام، وكان يستطيع ان يدرك انه فضاء اخضر يضوع بشذا العشب والازهار البرية، وبعيني ابنه يستطيع ان يراه منبسطا فسيحا، يمتد اخضراره على مدى البصر، وكان كما قال له ابنه، ويراه هو بصيصا، ثمة قمر فضي معلق في منتصف السماء، يلقي غلالة شفافة على المكان فيحيل ارضه التي تموج بالاعشاب، إلى ارض يلفها السحر والغموض.
اوقد ابنه نارا، واعد حساء الفقاع، وخبزا نضج على الجمر امامهما، له عبق يفتح الشهية للاكل، سينام الشيخ مرتاحا، هذه الليلة ايضا، فقد تحرر إلى الابد من هيمنة كابوس البوم، سيهنأ بنوم لن تظهر له فيه تلك الجيوش التي لا حصر لها من طيور البوم ذات السحنة الترابية وهي تتراكم فوق بعضها البعض، وتصفق باجنحتها لحن البلاء والشؤم، وتنعق نعيقها المخيف المرعب، وتنظر اليه باعينها الزجاجية ونظراتها الصفراء الميتة. لانه منذ اول ايام الحرب، غادره الكابوس خارجا من قفص النوم، إلى فضاء الواقع الشاسع الرحيب، برحابة هذه الافق وهذه السماء وبسعة الارض وامتداداتها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، ومن عالم الليل في غرفة نوم تحدها الجدران، إلى عالم الليل والنهاروهما يتعاقبان من الازل إلى الابد، ومن عالم الخيال والوهم، إلى عالم الحقيقة واضحا صريحا.
لعل هذا ايضا ما قاله البهلول محمد القنطراري، رضي الله عنه. كم كان مرفوعا عنه الحجاب. عندما اخبره ان الكابوس سينتهي، عندما يصبح واقعا يعيشه الناس، ولحظة ان تغادر طيور البوم نومه، لتنطلق باجنحتها ونعيقها وعيونها البلهاء لتسكن كل البيوت، بدءا من بلدة قنطرارة التي غادرها اهلها وتركوها لها كما سيحدث لحواضر وبلدات اخرى في عموم الدولة الرستمية، الاباضية الامازيغية، فقد بدأ الانهيار الذي لن يوقفه احد بعد الان، وخطر ان يسال ابنه وهما يستمتعان بهذا الجو العابق بعطر الاعشاب الصحراوية
لا ادري لماذا وافقت على هذا الرحيل إلى قنطرارة الجديدة في بلاد الجريد، وانا اعرف انني مجرد حفنة عظام سيحين انتقالها قريبا إلى حفرة القبر،
بعد عمر طويل ان شاء الله
وهل هناك عمر اطول من هذا العمر، الم ابلغ اخر المدى؟
الاعمار بيد الله
انها ايام لن يكون صعبا ان اقضيها في ديغوا او قنطرارة لا فرق
وهل ستحتمل الحياة مع كل ما بقى فيهما من اشباح
يعزيني انني ساصير قريبا واحدا من هذه الاشباح
والسؤال هو لماذا هذا الاصرار من اهل قنطرارة على ان ارحل معهم
وهم يعرفون انني رجل على مشارف الآخرة
يريدون التبرك بك والونس
فانت عميد عمدائها
ليس هذا ما يريدونه. انني في الحقيقة اعرف ما يريدون، لهذا جئت لالبيه لهم عن طيب خاطر
انهم يريدون قبرا، ويعرفون انني اكثر اهلهم جاهزية لتلبية هذا المقصد النبيل الشريف.
لا افهم القصد
اهلنا يؤسسون في الجريد بلدة جديدة، واحد مؤهلات البلدة وعوامل الارتباط بها المقبرة، فواحد من الاسباب التي تشد الناس إلى بلادهم هي وجود اضرحة اسلافهم. نعم، تدشين البلدة الجديدة، لا يكون تدشينا صحيحا الا بوجود مقبرة، الافضل ان يبدأ هذا التدشين برجل كان معاصرا لابائهم وامهاتهم ويمثل بما عاشه من عمر اكثر من جيل يوصل الاحفاد بالاجداد، ولذلك هم يصرون على الانتقال اليهم، وها انا ارحب بتلبية الطلب.
تعلم يا والدي انهم يحبونك كثيرا
وهل قلت شيئا يناقض ذلك، ان تدشين المقبرة بي، هو نوع من الحب والتقدير والاكبار، لاشك في ذلك.
نعم، سيكون جزءا من هذه الولادة الجديدة لبلدة قنطرارة، في ارض الجريد، ارض الخصوبة وجمال الطبيعة، وغياط النخيل، ومزارع العنب والكروم والزيتون، نعم لقد هلكت قنطرارة القديمة ويتبعها هلاك دولة الاغالبة التي قدمت للعالم مثالا لكيف يبني شعب من الشعوب دولة مزدهرة متقدمة يتوفر فيها العلم والعدل والكرامة والرخاء وحرية الانسان لاكثر من قرن ونيف من الزمان. ولكن قنطرار الجديدة ستكون الوارث، لكل حضارة الدولة الرستمية الاباضية الامازيغية، وستعيد انبعاثها، وتشعل قناديلها التي انطفأت بعد ان اضاءت اركان الارض الاربعة.
ختام
ايلاف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.