لايريد احدكم ترك بلاده ، إلا إذا كان مرغماً هُزوا رؤوسكم اذا كنتم توافقوني على كلامي
منذ مايزيد عن سنتين ، نظرتُ الى اليمن للمرة الاخيرة قبل ان استدير بوجهي وحياتي عنها ، رأيتها اكثر سواداً وبؤساً ، كما لم انظر لها من قبل. كانت نظرتي لها عبارة عن ثورة ، لا اقصد ثورة سياسية ، بل على الحياة بما فيها من عادات وثقافات ودِين وقتال وضياع
بعد مايزيد عن سنتين ، وصلتُ اوروبا ، فأصبح درب حياتي ابيض بسحر ساحر. استمتع في الحياة لأول مرة ، كما يلهوا الطفل بخرطوم رش المياة. لا اقصد انني وقعتُ في غرام اوروبا ، بل شعرت ان روحي تبلغ النشوة ، في كل يوم الان أقضي الايام في متاع الدنيا ، فكل يوم يبدوا يوماً جديد
جبال الالب؟ افكر في ذلك وانا مستلقي على السرير ، بينما اثبت نظري على سقف الغرفة ، اجل. أمد يدي الى جنبي الايمن ، اسحب هاتفي دون ان انظر إليه ، امرر إبهامي على الشاشة من اليسار الى اليمين ، فتنفتح شاشته من دون كلمة سر مفهوم ، فأنا سأبحث عن موقع جبال الالب في الخريطة
اقف في نيوشاتيل ، في محطة القطار السريع تحديداً ، انتظر قدومه ، احتسي القهوة و اتناول الكرواسان. على المقعد المجاور شابه تنام في حضن حبيبها ، كالرضيع الذي يتشبث بصدر امه وبعد نصف ساعة ، وصلت القطار وإستقليتُه ، ولم اُدقق في الخريطة على المسافة التي سأقطعها في هذه الرحلة
امامي في المقعد تجلس شابة حسناء ، تنظر إليّ كل دقيقتين بنصف إبتسامة ، لايزيد عمرها عن ستة وعشرين عاماً ، جميلة جداً ، ملابسها انيقة ، ومن الواضح انها عرفتني بأني عربي. بإمكاني فهم هذه الاشياء ، لكني لا اقيم لها اعتبار
على يميني ، النافذة الزجاجية للقطار ، اُركز على جمال الطبيعة السويسرية ، الجبال على طول الطريق عقيمة ، صِفر ثلوج. مايجعلني اغرق في بحر من التوتر والضجر بسبب فكرة زيارة جبال الالب قبل الشتاء
بعد نصف ساعة بصحبة الفاتنة ، سألتها الى اي بلاد تنتمي؟ قالت إنها سويسرية إيطالية. ثم سألتها عن إسمها ، فقالت : اونيلا. قلت لها بأن إسمي : آدم لو كنتُ استطيع التحدث بلغات العالم ، لاستطعتُ إيجاد المناسب من الكلام مع مثل هؤلاء العزيزات : اقول في نفسي
كم تتحطم فرص الحياة مع هؤلاء الملائكة امام لغتي العربية ، إنهن يعِشن حياة مبنية على الصداقات ، يتحول ألمي في بعض الاحيان الى احساس جسدي ، لاتوجد فلسفة لمعاناتي اوضح من هذه
بات امر لغتي يعذبني ، ويشعرني بأنني اكثر وحدةً بما انا عليه في الواقع. ارغب بالدخول الى العالم الخاص لهؤلاءِ الفاتنات ، لهذا اشعر بالدونية والعزلة. اشعر بأنني في حالة تسلل ، وهذا مايؤرقني
عدم القدرة على التواصل هو اكبر ألم يباغتني هنا ، فكروا بهذا. لايمكن ان نحيى في هذه الحياة من دون التواصل. انني اتكبد جهد مهول كجبال شاهقة. وأي محاولة للحديث مع الاخرين تبدوا لي عديمة الاهمية وبِدائية
لغتي تثير إشمئزازي ، لكني اتشجع على مفاتحتها بالحديث : بلغة إنجليزية بسيطة اخبرتها انني اريد الذهاب الى جبال الثلج ، ولكني لا اعرف اي قطار يقودني الى هناك؟ نتبادل النظرات ، كأنها تقول انها ذاهبه الى هناك. انا بالطبع افهم لغة العيون
بالمقابل ، سمعني شخص اسمر البشرة ، يشبه اهل حضرموت ، كان يجلس بالمقعد المجاور ، فسألني : اتتحدث العربية؟ لاتحتاج للمُحللين كي تستنتج هذا : اقول في نفسي بالطبع : اجيبه. انا عربي ، من اليمن ، اريد الذهاب الى جبال الثلج لكني لستُ متأكد انني في الإتجاه الصحيح
رحَبّ بي ، واخبرني انه صومالي. عليك تبديل القطار في المحطة التالية : يقول. ويُضيف : هذا القطار سيتجه الى ايطاليا. اُفكِر ان الحياة تنفتح بين يدّي ، وانها سهلة ، ولا استغرب أبداً
لستُ مغامر سخيف ، بل اشعر أني بمثابة صورة وورائي خلفيات متحركة لبلدان لامثيل لها. بوسعي ان اضع نفسي في الخلفية الإيطالية هذه المرة ايضاً ، هذا ما اريده ، مرة اخرى على الاقل. منذ غادرتُ اسبانيا ، عبرتُ فرنسا ، سويسرا ، والان ايطاليا
كانت في السابق اضغاث احلام ، اوهام ، امنيات لاحصر لها ، ضربات على الرأس : هكذا اقول في سِري وصلتُ إيطاليا ، ووضعتُ قدمي في الارض الايطالية كالأُبهه ، فتذكرتُ أُمنية رغبتها حينما كانت قدمي مكسورة في المغرب : ان اطوف بروحي حول العالم
الروح ، هذا المصطلح الذي يستخدمه الجميع ، كي يدّعون بأنهم اصحاب مشاعر ، ولا احد يعرف عنها شيء. معظم الناس لايعون إنعدام ارواحهم ، ولم يأخذوا منها سوى سحر المصطلح ، وقوة المعنى ، تافهون
نحن نحتاج الى ضبط بملكية ارواحنا اولاً ، وانا لديّ صَك بملكية روحي ، اما الاخرون فلا اعتقد حذارِ من الروح إذا غضِبَت ، فأنت تلعب بروحك ، لتكتشف في النهاية انك لاتستحق الحياة. وحينها تتوالى غارات الضباع عليك من اطباء النفس والمتشعوذين. فاتركوا ارواحكم بسلام ايها الاموات في جنازة بلا دموع