في شمال بائس بات جل ما فيه صراخ وصرخات،وخطب عصماء تتبعها دماء ورفات سيبدو حينها ان طربيات(بائع الماء) عمرو في صنعاء ومظاهرات (منشاكمش) في تعز هي الشيء الوحيد الذي مازال حيا ويوحي بان ثمة بقايا روح من جمهورية (صالح). لا شك ان الحقيقة الوحيدة التي اضحى الشمال يؤمن بها اليوم هي ان الرئيس (صالح) قد غادر المشهد وان الحوثي قد ابتلع التركة كاملة واضعا الشعب امام عهد الملكية المستجد وان دون ذلك ليست الا مشاريع واوهاما لن تتجاوز في احسن الظروف كانتونات ماربوتعز وحتى ساحل الحديدة.. فالحوثيون قد باتوا اليوم امرا واقعا بل مفروضا حتى ان الخارج صار هو الاخر يحاور ويعد الاتفاقيات السياسية المحتملة على هذا الاساس او الواقع المفروض كما يسميه البعض .. حاضرا تسير المملكة العربية السعودية بمعية دولة الامارات في إرساء دعائم الاستقرار والهدوء في الجنوب عبر فرضها لاتفاق معين قد يبدو مرحليا في ظاهره عدا انه سيهيئ لواقع سياسي جديد او بالاصح تجربة سياسية بانتظار افرازاتها التي ربما سيبنى عليها لاحقا فرضية الحل المستدام ومستقبل الجنوب السياسي .. وعلى الرغم من شدة تلك التقلصات المؤلمة التي يعانيها الجنوبيون اليوم قبل دخول اتفاق الرياض حيز التنفيذ الا ان الامر يبدو للكثيرين قد حسم مسبقا بقناعة اقليمية اكدتها رغبة دولية واسعة..وهنا سيبدو جليا ان الشمال الجمهوري هو الخاسر الاكبر من كل هذا التحول الكبير في هوية البلد الموحد لأكثر من عقدين من الزمن .. يعلم الشمال جيدا معنى ان تتحرك عجلة المستقبل والحلول السياسية على اسس الواقع المفروض لذا ليست مبالغة القول إن الشعب هناك بات يلفظ آخر انفاس الحرية والاستجداء عاليا جدا بغية عدم تركه رهينة لحسابات الصراع القادم بين قوى اقليمية تبحث عن عظمة النفوذ والتوسع. لا ريب ان نجاح دول التحالف عبر تسوية سياسية تجلب معها ثبيت الوضع الامني وتطبيع الحياة مجددا في الجنوب سيضعها هنا امام التزام وإستحقاق اخلاقي وقانوني لنظيرتها في الشمال. .. ولعل ذلك ربما ما جعل معدي اتفاق الرياض المزمع توقيعه خلال الايام القليلة القادمة بين الفرقاء في الجنوب يفضلون عنونته ب (التسوية السياسية الرامية لتوحيد جهود حلفاء الداخل في مواجهة الانقلاب الحوثي) ؛الامر الذي يعطيه بعدا سياسيا اوسع يرسل من خلاله اشارات طمأنة للجميع بمن فيهم المجتمع الدولي والشعب في الشمال مؤكدا عبر عنوان تلك التسوية نوايا دول التحالف ورغبتهم الحاضرة في انهاء ازمة الملف اليمني سياسيا ولكن بتراضي اطرافه في الداخل. لذا عندما اتحدث عن بقايا جمهورية او اي مشروع سياسي ليبرالي يحتضر هناك، ولربما يعبر من خلاله عن هوية معظم الطيف الشمالي دون اختزاله في جماعة كهنوتية مرتهنة، فإنني اتحدث هنا عن مخاوف وتوجسات حقيقية تخيم على الوضع الراهن في الشمال وكذا باتت تلقي بظلالها على مستقبله .. وبطبيعة الحال فان هذا التوجس وهذه الرهبة لن يقفا عند جغرافيا الشمال وحسب بل على العكس من ذلك ستظل تلك المخاوف تراود الجميع في الجوار والمحيط ومن هنا ستتولد القناعة وتاتي الضرورة في حلحلة الركود وتعديل ملامح الصورة البارزة للشمال امام العالم. قطعا سيكون التحدي الاكبر امام متعهدي ملف الازمة اليمنية بعد تأكيد اتفاق الرياض وسريان بنوده هو كيفية جذب المكونات الشمالية الهاربة والمنتفعة الى مربع المواجهات فعليا مع الحوثيين المدعومين اقليميا ودوليا وبالتالي إبراز حالة من الرفض الشعبي والنخبوي المستجد وان بدا خجولا لكنه سيبدو كافيا لدول التحالف امام الدول الأعضاء في الاممالمتحدة في اقناعهم بضرورة اعطاء مزيدا من الوقت لحل ازمة اليمن حتى تتضح معالم الصورة والرؤية السياسية شمالا فتسمح معها ببناء حلول مشابهة لتلك التي اقرها التحالف في الجنوب وهذا اساسا ما ترجوه وتسعى اليه اليوم دول التحالف في حلها للازمة التي تفتك بجارتها اليمن. اي ان تلك الدول الشقيقة ستعمل جاهدة في ايجادها جارا آمنا يمتلك واقعا سياسيا مستقرا لا يغادر الوصاية الخليجية ابدا او يتحول يوما ما الى مصدر قلق وتهديد حقيقي لمصالح جيرانه بالمنطقة. تؤمن دول التحالف بإستحالة نجاح ما تصبو اليه في الشمال دون ان تجد له الحاضنة الفعلية والوعاء الشعبي التواق للتحرر من براثن العبودية والامامة المتغولة، لذا فهي فعلا لم تأل جهدا على مدى اعوام الحرب المنصرمة وحتى الساعة في دعمها القوى الشمالية كافة التي اعلنت قتالها للحوثيين . بيد ان معظم تلك القوى والجيوش التابعة لها آثرت ممارسة الانتهازية والابتزاز مع دول التحالف ربما لاتفاقات سابقة ابرمتها قوى الشمال تحت الطاولة يومها مع الغريم الحوثي او ربما لموروثات تاريخية تتعلق بصدامات النفوذ وصراع لا منته بين الشمال وجاره السعودي . في نهاية المطاف لن يكون امام الجميع الا المضي قدما بما يتوافق مع ثوابتهم الخاصة وظروف المرحلة الحالية وكذا حالة التحول التي تشهدها المنطقة ككل؛ واظن بالفعل ان الجنوبيين هنا واشقاءهم في التحالف قد فهموا فسيفساء هذا التحول القادم مبكرا ودلفوا سويا الى التماهي معه بدلا من مواجهته عبثا. تظل وحدها قوى الشمال واحزابه الباحثة عن وهم الوحدة والتي يحاول بائع الماء ومتظاهرو منشاكمش مناداتها النداء الاخير هي صاحبة القرار الفصل هناك ؛ فإما واستجابت لنداءات شعبها المكلوم لتعمد حينها في البحث بمسؤولية وطنية عن حل ومخرج سياسي يحفظ معه هوية الشمال ويضمن مستقبله ومصالحه مع جيرانه،وإما واستمرأت عبودية المال الملوث وذل المنفى وبذا ضاعت وأضاعت ماتبقى .. تجاوز معظم القادة الجنوبيين اليوم خلافاتهم مع الشرعية وباتوا يضعون قدمهم الاولى في طريق السلم والاستقرار ولا يخفى هنا ان حالة الامتعاض الشعبي تجاه كمد التية السياسي التي عاشها الجنوبيون مؤخرا وكذا رغبة التوقف عن سفك دماء ذات البين قد لعبت دورا كبيرا في اذابة الجليد امام معوقات التقارب ومنفرات المتحاورين في جدة ؛ لياتي بعدها الحديث عن توقيع اتفاق الرياض. السؤال هنا ! هل ثمة قادة في الشمال باتوا على استعداد في ان يسلكوا مسلك نظرائهم في الجنوب ؟ وقبلها القناعة في ان يترك هؤلاء القادة عنهم متلازمة اللهث وراء شهوة السلطة واثارة الفتن، ويتفرغوا قليلا لتحرير مجتمعهم المغتصب من صلافة القنديل وقيد الزنبيل؟ ان لم يفعلها اؤلئك المنبطحون اليوم؟ فمتى إذن؟