تنفرد بنشر مذكرات ( الطريق إلى عدن ) الرئيس علي ناصر : الحلقة ( الثاني والثلاثون ) متابعة وترتيب / الخضر عبدالله : المحطة السابعة .. المسيمير والقطن نواصل عبر صحيفة " عدن الغد " نشر مذكرات الرئيس الأسبق علي ناصر الذي حدثنا عن مراحل حياته في السفر إلى عدن في حلقات نشرت مسبقاً بمعية أصدقائيه كان من أشهرهم العم سليمان وبرم ويقول في هذا العدد :" حططنا رحالنا عند أحد الآبار، كانت هناك بعض النسوة يستخرجن الماء ويسقين الأغنام والأبقار والماشية وكان بعضهن يحمل الماء على رؤوسهن والماء يسيل على لباسهن وتظهر مفاتنهن قبل أن تستخد وتظهر الملابس الداخلية التي تلبس تحت الملابس. وذهب أحد رفاق رحلتنا إلى البئر ليسقي الجمال ويجلب الماء للرجال، وأخذ يتحدث إلى واحدة من تلك النسوة مدعياً أنه على معرفة مسبقة بها منذ وقت طويل، وأنه يرتبط بأسرتها بعلاقة قديمة، وأن أحد أفراد أسرته سمي باسم أحد أقارب تلك المرأة إلا أن تلك التبريرات لم تهمنا كثيراً أو تعني الكثير لنا، فالذي كان يهمنا هو وجود الماء والطعام في ذلك المنزل الذي تدخل وتخرج منه تلك المرأة، وكان يعني تغييراً مهماً في نظام رحلتنا الجاف. فجأة تغير كل شيء بالنسبة لنا ولصاحبنا، وكانت هذه هي المرة الثانية التي لا نطبخ فيها طعامنا، وكانت المرة الأولى في شقرة في منزل السيدة سعدية، لكن كان علينا أن نعمر المداعة التي هي أساس سهرتنا ولا طعم للسمر إلا إذا كانت هذه العروس حاضرة بيننا. وكان لرائحة تبغها الذي يحترق عبق خاص في سهراتنا وجلساتنا تلك، إن لهذه المداعة أو الرشبة مكانة خاصة إذ يتم حفظها في مكان خاص، وتتم العناية بها أكثر من الاهتمام ببقية زادنا من الطعام والسكر والشاي والماء في هذه الرحلة الطويلة المتعبة والجميلة في آن واحد. وقد عشقت رائحة التمباك وتعودت عليه فأصبح جزءاً من طعامنا وشرابنا وسهراتنا وكانت تلك المرأة تدخل وتخرج، تظهر وتختفي بين البيت والبئر والقافلة، المهم أن حياتنا تحسنت بفضل رفيق رحلتنا هذا، وقد طاب لنا المقام في هذه القرية عشرين ساعة كاملة وهي أطول فترة قضيناها في أية محطة منذ بداية رحلتنا. ولاحظت ونحن في هذه القرية مدى التطور الذي أخذ يدب فيها، حركة السيارات والحراثات والمضخات دخلت إلى القرية بشكل واسع مع بدايات النهضة الزراعية التي شهدتها دلتا أبين وذلك باستصلاح الأراضي الجديدة وزراعة القطن لأول مرة، والذي يطلق عليه عادة الذهب الأبيض، كما شهدت زراعة الموز والخضار والفواكه وبعض المحاصيل الأخرى ازدهاراً. ويضيف سيادة الرئيس :" وهذا الازدهار الذي أصاب قرى الدلتا له علاقة بالقرار الذي اتخذته السلطات البريطانية بتطوير دلتا أبين وتبن بعد أكثر من مئة سنة من احتلالها عدن وبقية محميات الجنوب، وصاحب عملية زراعة القطن إنشاء المحالج في الكود وبئر ناصر. وقد ازدهرت زراعة القطن في أبين واستفاد منها كبار الملاك والسلاطين والأمراء وأصبحوا يشترون أفضل الملابس والعطورات والذهب لنسائهم في موسم الحصاد, ويصرفون ما في الجيب حتى يأتي ما في الغيب, وجرت العادة أن تصرف جمعيات زراعة القطن مبالغ للفلاحين كقدمة بعد زراعه القطن لتشجيع الفلاحين من أجل الاهتمام بزراعة القطن وجنيه وجمعه في أكياس توزعها للفلاحين مجاناً ومن ثم يجري اقتطاع المبالغ من قيمة القطن وتسمى قرضة. وقال الشاعر ناصر عبد ربه مكرش عن القطن وأسعاره: ونحن في الخمسين نمشي بعطبنا إلى ساحة الميدان من كل جانب وركبنا الميزان اشول وبريه وهذا يغالطنا وهذاك يكتب وسووا لنا الميعاد من شهر إلى سنة ونحن ضباحه في التعب والتعذب لا حول ولا قوة من الظلم والظلم في نفس هذا اليوم من فين صلب وبعد قطعنا العطب لا عاد نزرعه وصبح علينا الجيش بأربع كتائب ونحن زرعنا القطن لا عاد نزرعه وزجوا بنا في السجن جاهل وشائب
متابعاً حديثة بالقول :" وقد نشر السيد محمد ناصر العولقي وثيقة من البرلمان البريطاني عن القطن وزراعته ولجنة ابين عام 1953م حيث تحدث وزير الدولة للمستعمرات البريطانية السيد أوليفر ليتيلون في جلسة البرلمان يوم 25 فبراير 1953م مجيبا على سؤال أحد النواب بشأن وضعية لجنة أبين الزراعية وإنتاج القطن فيها خلال السنوات 1949م - 1952م فقال : "الإنتاج خلال السنوات الأربع الماضية بلغ 17،877 بالة عبوة 400 رطل لكل منها (حوالي سبعة مليون ومئة وخمسين ألف رطل)، وقد تم بيعها، وبلغ مجموع العائدات 1،719،618 جنية إسترليني، وبالإضافة إلى ذلك، تم بيع البذور بقيمة 86،500 جنية استرليني في عام 1951م و 54،870 جنية استرليني في عام 1952م. ولدى لجنة أبين رأس مال كاف لتلبية متطلباتها الحالية". وكانت هذه الإحصائية في السنوات الأولى لبدء زراعة القطن في دلتا أبين وقبل أن تتوسع عملية استصلاح الأراضي فيها حيث أصبحت مساحة الأراضي الزراعية في الدلتا بعد انتهاء عملية الاستصلاح حوالي خمسين ألف فدان، ووصل إنتاج القطن في أبين أواخر الستينات الى 30 مليون رطل في موسم واحد. لقد كانت دلتا أبين قبل الإستقلال توصف بأنها أغنى مناطق الجنوب العربي بفضل إنتاجها الزراعي بدرجة رئيسية, وثروتها الحيوانية والسمكية ونظام الري الصارم والفريد. ثم صار ما صار في جعار وزنجبار. بانجناه ويقول الرئيس ناصر :" ولا شك أن ذلك كانت تمليه حاجة مصانع الاستعمار في إنجلترا إلى القطن طويل التيلة وقد غنى الفنان فضل محمد اللحجي (1) أغنيته المشهورة من كلمات الشاعر عبد الله هادي سبيت: بانجناه بانجناه بانجناه بانجناه بانجناه من غصنه واهابوي من حسنه يشفي القلب من حزنه بانجنى الذهب الابيض لا يدّول ولا يأرض عاده لا دّوّل بيّض ذا صافي من البرعم لا يدحش ولايدرم فوق الجرح مايؤلم وسط البودرة تلقاه والخدين تتلقاه محلاهم ويامحلاه محلاه في الخدود البيض بس القلب مابيريض يشتي دايماً تمريض يامحلاه في المحلج كم له من مليح ابلّج يرمي به ويدّرج والخدين تتضرج والنهدين تترجرج والملهوف يتحرجج لا با المطرز بتلّه لا ولا المخمل باثوب من ذي الوصل جاهز متلّل مكمّل بفعل لذا البدر منّه مقرمه ململ ذي داخل القلب حّل باجدد العهد الأول عهد الصفا والوفا هيهات يتبدل نقضي السمر في القبل لما يجي الفجر الاول بانجناه يامحلاه في المكبس يترصرص ويتجلس يسلم لي الذي أسّس منه ليتنا نلبس أبيض ناعم الملمس يسلم لي الذي غرّس ورغم أن كلمات قصيدة المبدع عبدالله هادي سبيت هذه كتبت بالعامية الا انها يمكن ان تكون تاج الشعر العربي في موضوع القطن، فهي على عاميتها لا تدانيها قوة تعبير وتصوير إلا قصيدة خليل مطران "هدايا العروس" التي قالها في القطن وجانياته, وقد غناها ايضاً: عبدالرحمن باجنيد و فيصل علوي ومحمد مرشد ناجي. وكان المرشدي قد عمل في بداية شبابه في لجنة أبين للقطن. السؤال عن زوج قريبتي ومسترسلا في مواصلت حديثه :" أعادت المسيمير إلى ذاكرتي وأنا فيها أن أحد أبنائها تزوج من امرأة من أقربائنا من بيت "خيران امعسل" وانتقلت للعيش مع زوجها (سالم بن صالح) وهو من أمراء هذه القرية، وكان من الصعب أن أسأل عنه أو عن قريبتي فأنا لا أعرفها ولا أعرف زوجها، ولهذا فضلت عدم البحث والسؤال عنها مفضلاً أن أبقى مع رفاق رحلتي على الحلوة والمرة كما يقولون، وكنت أجد كل العناية والرعاية والاهتمام من هؤلاء الرفاق، وقد نصحني بعضهم ان أسأل عن زوج قريبتي، فالقرية صغيرة ويمكن الإستدلال على بيته بسهولة، خاصة أنه رجل معروف بل هو أحد أمراء القرية ولاشك أن الكل يعرفه.. وكنت أعلم أن الرجل شهم وكريم وسيرحب بي وبمن معي غير أنني فضلت محطة البئر على منزل صهرنا الأمير.. الحياة هنا بسيطة وجميلة وبلا تعقيد، الكل يفكر في رحلة الأمس وسفر الغد والاستعداد للرحلة إلى عدن التي باتت تقترب.. أخذ البعض يتحدث عن عدن، عن "الشيخ عثمان"، عن بائعات الخمير وعن الشيخ الدويل والسيسبان وحافة القاضي ودار سعد والهاشمي.. ويبدو أن الشعور بأننا بتنا قريبين من عدن قد أثار هواجس وذكريات البعض منا.. ولاشك أنها ذكريات بريئة لا تتجاوز الكلام والسلام. لم يكن حديثهم يهمني كثيراً فأنا أفكر في الطريق إلى عدن بينما كانوا مشغولين بأشياء أخرى.. وكالعادة راقنا السهر هذه الليلة أيضاً فجولتنا في الأفكار وفي الأماكن وفي معرفة الجديد لا نهاية لها.. إن الإنسان ميال بطبعه إلى المعرفة، وكلما عرف شيئاً, أدرك أن هناك أشياء كثيرة عليه أن يعرفها, حيث تختبئ كنوز المعرفة، وبعد ذلك يكتشف أنه لم يعلم إلا القليل مما ينبغي عليه معرفته.. "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" صدق الله العظيم. هوامش / 1- فضل محمد اللحجي: اكتشفه القمندان وهو في سن العاشرة تقريباً وكان من أسرة فقيرة واعتنى به عناية فائقة حتى أتقن مهنته وكان من ابرز عازفي العود وتروى عنه حكاية قيل انه كان في احد المرات . التي كان الأمير احمد يتأهب للخروج إلى بستان الحسيني هو ومجموعة من الأصدقاء وفنانين وشعراء قاموا من مجلسهم ليذهبوا إلى الحسيني وقام فضل معهم وقال الأمير أحمد لفضل: لا اجلس, انت مريض والرياح ستؤثر على عيونك عندها قال فضل: منع شلوني معاكم وبحس الأديب والفنان المرهف التقط الأمير كلمة "منع شلوني معاكم" فولدت أغنية: ألا يا أهل الحسيني منع شلوني معاكم والنبي ما بفرق الزين ألا يا أهل الحسيني منع شلوني معاكم