تخرجت من كلية الحقوق، جامعة عدن، في عام 1989وبحسب تخصصي أحالتني دائرة الكادر في وزارة الدفاع للعمل في دائرة القضاء العسكري بحسب التخصص.. أذكر في أول يوم قدمت فيه للقضاء العسكري، كان برفقتي ابن عمي عبده فريد حاشد.. وفيما كنّا في طريق صعودنا إلى "الفتح" الذي كانت تقع فيه وزارة الدفاع ودائرة القضاء العسكري ودائرة الإستخبارات العسكرية قال لي: الآن أرمي بالشهادة، وكلما تعلمته إلى خلف ظهرك، الحال هنا يختلف.. لم أهتم لحظتها بما قاله، بل أعتبرته من قبيل المبالغة في التوجس، ورديت عليه بعدم معقولية ما قاله، ولكنه علق في ذهني، ثم وجدت مالم أكن أتخيله.. كان يومها محسن حسين مديرا لدائرة القضاء العسكري، ورئيسا للمحكمة العسكرية.. كنت لا أرتاح له، وأشعر بغلظته وتجهمه المستمر نحوي، بل كنت أشعر في بعض الأحيان أن العلاقة بيننا كما أتوهم أشبه بعلاقة مدعي بمتهم لا علاقة رئيس بمرؤوس، على الرغم أنه لم يسيء لي شخصيا، ولم يمارس ضدي ما يبرر هذا الشعور الذي ربما اعتبره متجنياً. • لا أدري لماذا أفتقد الكيمياء والتفاعل مع البعض، وأنسجم بالمقابل مع آخرين، وأشعر بالدفء والمودة قربهم!! ربما هناك أسباب لما أعانيه ترجع لشيء ما في وعيي الباطن، وربما تتشارك معها أسباب موضوعية؛ مثل غلبة وحدِّية التعامل الرسمي من قبله نحوي، أو لرسمية طاغية ورتيبة في تعامله معي.. • غير إن الأهم في شعوري النافر منه، يرجع في معظمه إلى الأحكام القاسية الذي كان يصدرها بحق المتهمين، وعدم الرضى عن تلك الأحكام التي كنت أرى في بعضها أو جلّها جوراً وقسوة بالغة.. كنت أتعاطف مع المتهمين الذي أحقق معهم، وأبحث عما يخفف عنهم، لأنني أعرف أن هناك أحكام قاسية تنتظرهم، ولا توجد محكمة استئنافية أو عليا تقف أمام تلك الأحكام القاسية، أو تخفف من عقوبات تلك الأحكام المتصفة بالشدة والصرامة المبالغ فيها.. • كان من أكثر الأصدقاء قربا لي في العمل زميلي البدوي الجميل منصر الواحدي، الضابط الإداري الخلوق والممتلئ والشهم، وكذا زميلي ضابط التحقيقات أشرف ولي محمد من عدن، وكان هذا الأخير ينحدر من أصول يبدو أنها باكستانية غير أن ما يميزه كانت طيبته العدنية وحميميته الصادقة.. كانت التحولات السياسية تلقي بضلالها على مستقبل كل واحد منهما، فأشرف ولي محمد هُضم بعد الوحدة حتى اختفى ذكره، ولا أعلم أين هو اليوم! وهل لازال حيا أم أنه غادر إلى العالم الآخر؟! فيما صديقي منصر الواحدي الذي ترك صنعاء وعاد إلى عدن بعد حرب 1994 عاش معاناة الجنوب وأهله حتى تقاعد أو أحيل إلى التقاعد، وهو الكادر المثالي الذي كنت أتوقع له مستقبل قيادي لافت، أو تأهيل إداري عالي إن كانت هناك عدالة في الاستحقاق والفرص، ولكن كانت السياسة تخذل كثير من الكفاءات والأحرار والصادقين الذي لا سند لهم. • كان صديقي منصر مثال لي في الخلق والعفة والتسامح والاعتدال.. مخلصا لعمله ومهنته والانتماء للوطن الكبير.. كان ودودا وخدوما مع الناس، ولا يفسد الخلاف معه في الرأي للود قضية.. صديقي منصر الواحدي لطالما أختلفت معه، ولكنه كان ولا زال انسان كبيرا وعظيما وحكيما، وقريبا أيضا من الله البهي الغفور الرحيم المتسامح.. منصر الواحدي جاري العزيز في صنعاء الذي أسلفني أو استدان لي يوما قيمة قبر خالتي "سعيدة" عندما كنت لا أملك قيمة قبر!! • في القضاء العسكري قبل أن أمارس وظيفة ضابط تحقيق وجدت نفسي في غرفة الارشيف القضائي في الدائرة اطلِّع وأتعرّف على دور المحقق، وكيفية التحقيق، وإجراءات المحاكمة.. ورغم الفترة القصيرة التي قضيتها في الأرشيف كانت الاستفادة منه كبيرة، وصنعت لدي أساس معرفي ليس فقط لوظيفة ضابط التحقيق، ولكن احاطة بالقضاء العسكري إجمالا وتفاصيل.. • في الأرشيف وجدت كثير من الخلاصات وايضا كثير من التفاصيل، وكثير من المعارف التي قدمت لي المشهد على نحو أكثر وضوحا.. كانت تجربتي فيه أشبه بالدخول إلى مغارة كبيرة وعميقة لأستكشف وأتعلم وأستزيد معرفة، غير أن الجزء الأهم من رحلتي في الأرشيف كانت لمعرفة المظالم التي مرت من تحت سقف القضاء، أو التي تم تشريعها بأحكام قضائية.. وليس كرحلة سلطان زابن في البحث الجنائي بصنعاء، والذي تم تكريمه على صنائعه من قبل ما يسمّى ب "مكتب الرئاسة"، وغيره ممن وجدوا أنفسهم قيادات في إدارة ما يسمى "جهاز الأمن القومي" الذي كانوا يطالبون بحله، وباتوا يبحثون فيه عن ذواتهم الصغيرة، ويتطفلون على خصوصيات الناس.. غير أن الأكثر سوء استخدامه في الإخضاع والترهيب وتلفيق الجرائم.. • كان أرشيف القضاء العسكري المسنود عهدته ل "شمروخ"، منظّم ومبوّب ومرتّب تستطيع أن تحصل على ما تريد في أقل وقت ممكن.. كان النظام الإداري الموروث من بريطانيا في جهاز الدولة في الجنوب ومن ضمنه دوائر وزارة الدفاع دقيقا وتستطيع من خلاله الحصول على المعلومة في وقت قياسي، فيما وجدنا عكس هذا في الإدارة العثمانية المورثة في الشمال، مثل أرشيف القضاء العسكري في صنعاء.. لقد بدا لي الفرق بين الإدارة العثمانية والإدارة البريطانية شاسعا شكلا ومضمونا.. • في الارشيف أطلعت على قضية تم إدراجها وتصنيفها في جرائم خيانة الوطن، كان بطلها شاب دون العشرين عاما على الأرجح، وتدور أهم أحداث الواقعة بين المضاربة والوازعيه الحدوديتان أنداك، وأطرافها بين الشاب المقيم في الجنوب وأفراد من أسرته كانوا قد هربوا من الجنوب إلى الوازعية في الشمال، والجهة التي جندت الشاب ليقوم باغتيال قريبه. • هذا الشاب لم أعد أذكر الاسم الكامل له، ولكن أذكر أن في اسمه الثلاثي اسم “طارش”.. أسندت له جهة استخباراتية في الجنوب مهمة اغتيال قريبه أظنه كان خاله أو عمه.. اعطوه السم ليضعه له في الماء، ولكنه تردد وناور وحاول أن لا يفعل وأخترع الأعذار.. أصروا عليه أن يفعل بالترغيب والترهيب، ولكنه عاد إليهم وقال لهم أنه قام بوضع السم في الماء، ولكنه وجد الماء يتغير للون الرمادي، فأحجم عن الفعل، وعندما شكُّوا في أمره واقتنعوا أنه لن يفعل، وربما افترضوا أنه سيهرب إلى حيث أقربائه، تم التحقيق معه في الاستخبارات وتعرض للتعذيب، وأحيل للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، وتم الحكم عليه بعشر سنوات سجن. • هذه القضية بالنسبة لي كانت صادمه.. شككتني بحقيقة العدالة، وشعرت إن الظلم الفادح موجود في كل مكان، وأشعرتني أن العمل الأمني والاستخباراتي في معظمة دميم وخطر على العدالة، ولاسيما إن تم الإنحراف بأهدافه، وأن سدنته وصانعي القرار فيه هم في الأغلب مجرمين كانوا رجال أمن أو رجال سياسة. **************************** يتبع.. قصص حبي الفاشلة.. بعض من تفاصيل حياتي