تقع اليمن اليوم في أسفل درجات سلم التنمية العالمي بمفهومها الواسع. وتصنفها المؤسسات الدولية البارز المتخصصة ومراكز الأبحاث العالمية على أنها اليوم من بين الافقر والأجوع والأضعف والأكثر تخلفا وهشاشة بين شعوب الأرض. اليمن كما يعلم الجميع كانت يوما في التأريخ العالمي من بين الأزهى والأنصع والأكثر تقدما وحضارة. العالم الاقتصادي البريطاني الشهير باول كوليه وضع اليمن في كتابه الشهير "مليار القاع" ضمن مجموعة الدول تلك التي تربض في قاع العالم وتعيش أحوال وظروف القرن الرابع عشر الميلادي.
وقبل أن ندرس الأسباب الداخلية والخارجية التي قذفت بهذا البلد العريق وشعبه المكافح إلى هذه الهوة التأريخية السحيقة يتعين علينا أولا أن نقيس هذه الفجوة التي تفصل اليمن عن العالم المتقدم. ربما يتساءل سائل ما هي الجدوى والقيمة العملية من قياس الفجوة التنمية لوضع مقارنة -لبلد يعيش اليوم زمن وظروف العصور الوسطى المظلمة في أوروبا من حروب وصراعات دموية مدمرة وأنظمة حكم متخلفة جاهلة- مع دول صناعية متقدمة كانت يوما تكابد من نكابده في الوقت الحاضر فنهضت وبلغت اليوم من الرقي والنهضة والتقدم درجة رفيعة يكاد البعض يظن أن لا "سبيل لنا" أن نبلغه.
ما الذي سننتفع به من تحليلها وفهم طبيعتها وعناصرها وخصائصها ودينامياتها. الجواب ببساطة، قياس وتحليل الفجوة هو إحدى تقنيات المنهج العلمي التي تساعد الاستراتيجيين وصناع القرار على مقاربة الحاضر بالماضي والحاضر بالمستقبل. تحديد ما هو قائم بما هو مطلوب، ما هو فعلي بما هو محتمل أو ما يطلق عليه بإستراتيجية تحديد المواقع.
أين نحن بالضبط من مواقع الشعوب والدول الأخرى؟ وكيف نبدو تحديدا في وضعنا القائم أمام الآخر؟ وكيف يتعامل معنا هذا الآخر في ظل ما نحن عليه؟ وأين نريد أن نكون؟ وكيف؟ ولماذا؟ إن ردم هذه الفجوة مطلب ملح وضروري لكل أمة حتى تعيش برخاء وحرية وكرامة قبل أن تكون مجرد أمنية. الفجوة لغةً هي الفاصل الزماني والمكاني بين أمرين أو شيئين أو موقعين. ولردم هذه الفجوة يتعين قياسها وتحليلها ودراسة أسبابها.
تحليل هذه الفجوة السحيقة بعد قياسها سوف يمكننا من معرفة الأسباب والمصادر المسؤولة عن سبب وقوعها واتساعها. حجم الموارد والطاقات والجهود التي نحتاجها لردمها. الكيفية التي نخصص بها تلك الموارد والطاقات والجهود لتحسين أدائنا والوصول باليمن إلى المستوى الذي تتقلص فيه الفجوة في كل مرحلة زمنية معينة إلى إن يتم ردمها تماما كما فَعِل غيرنا. ظل متوسط الدخل في اليمن قبل ألف عام ونيف من هذه التأريخ شأنه بقية الدول البعيدة والقريبة منا وفقا لبحوث المؤرخ الاقتصادي أنجوس ماديسون عند أدنى مستوى ممكن للبقاء على قيد الحياة. بما معناه أن معدل النمو الاقتصادي لليمن كما العالم كله كان صفرا. بحيث بدت كافة النظم الاقتصادية ما قبل الرأسمالية جامدة وساكنه.
لم تتعدَّ الزيادة السنوية لنصيب الفرد من الناتج أكثر من 0.05%. ولهذا فان عدد سكان العالم لم يكن يتجاوز 300 مليون نسمة وعدد سكان اليمن لم يكن يزيد تقريبا عن 2 مليون نسمة. أي أن اليمن وبقية دول العالم خلال تلك الحقبة التأريخية كانت تعيش ما يطلق عليه المرحلة الأولى من التحول الديموغرافي.
بحدوث الثورة الصناعية في الغرب وما صاحبها من تطور كبير في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج نمت اقتصادات الدول الصناعية الغربية خلال الفترة 1820-1950 بمعدل سنوي وقدره 1.6%. فيما ظلت الدول العربية ومن بينها اليمن ودول أخرى على حالها كما كانت قبل ألف عام. تلك كانت نقطة البداية في ظهور الفجوة وإتساعها بين اليمن والدول الصناعية. داوم اليمن حتى نهاية الخمسينات – وهي نقطة انطلاقنا هنا في قياس الفجوة – مثل بقية الدول الفقيرة والنامية على العيش في سكون وجمود (سنأخذ من كوريا الجنوبية معيارا للقياس كنموذج لدولة صناعية متقدمة كانت قبل 6 عقود على نفس مستوى التطور مع اليمن تقريبا).
وحتى نهاية تلك الفترة التأريخية كان اليمنوكوريا الجنوبية وأثيوبيا وهايتي وماليزيا وسنغافورة واندنوسيا والسعودية وبقية دول الخليج وبوتسوانا وغيرها عند نفس المستوى المتقارب من مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي معبرا عنه بمتوسط نصيب الفرد من الناتج.
في عام 1950 زاد عدد سكان اليمن إلى 4 ملايين نسمة وهو ما يعني أن اليمن لم يتجاوز عتبة المرحلة الأولى من التحول الديموغرافي.
فقد احتاج إلى نحو الف عام تقريبا لكي يتضاعف. يبلغ اليوم عدد السكان نحو 30 مليون نسمة وسيصل مع حلول عام 2050 نحو 77 مليون نسمة وهو ما يعني أن عدد سكان اليمن أصبح يتضاعف كل 17 عام وهو لاشك سباق خاسر بين السكان والموارد في ظل علاقات وقوى الإنتاج السائدة. اليمن شأنه شأن كوريا الجنوبية ظل متوسط نصيب الفرد من الناتج حتى نهاية الخمسينات عند مستوى 60-90 دولار. وكان نصيب قطاع الزراعة في هذين البلدين يشكل نحو 90% تقريبا من إجمالي النشاط الاقتصادي والدخل القومي.
حققت كوريا الجنوبية خلال الفترة 1960-2020 قفزة تنموية هائلة بحيث صنفها البنك الدولي عام 2018 في المركز الثاني عشر عالميا اقتصاديا وبلغ ناتجها المحلي الإجمالي نحو تريليون و 619 مليار دولار ونصيب الفر من الناتج المحلي الإجمالي نحو 32 ألف دولار للفرد.
الصناعة التحويلية تسهم بأكثر من ثلث قيمة الناتج القومي، وبلغ معامل رأس المال البشري عندها 0.84. فيما ظل اليمن من بين أفقر دول العالم حيث أحتل المركز 175 في التصنيف العالمي، ولم يتعدّ الناتج المحلي اليوم نحو 24 مليار دولار ونصيب الفرد من هذا الناتج 800 دولار طبقا للتقديرات الاحصائية الدولية والوطنية. فيما لم تسهم الصناعة التحويلية بأكثر 6% من الناتج القومي وأقل من 4% من إجمالي قوة العمل.
إن معامل رأس المال البشري مقارنة بكوريا الجنوبية لم يتعدّ 0.37 وهو يعبر عن نفسه بالمستوى المنخفض لمعدل الإنتاجية في اليمن والتي تقل في القطاعي الزراعي على سبيل المثال بنحو 150 مرة أقل عن إنتاجية الفلاح الأمريكي.
ويفصح معامل التنمية البشرية عن الجمود الكبير الذي يغرق في طبقاته السميكة الاقتصاد والمجتمع اليمني. فقد حقق هذا المؤشر ارتفاعا طفيفا بمقدار 0.09 خلال ستين عاما من 0.392 عام 1960 إلى 0.463.
فيما بلغ معامل التنمية البشرية في كوريا اليوم 0.906 وهو معامل مرتفع للغاية يحكي ببلاغة مصادر قصة الأسطورة الكورية.
لذا فقد اتسعت الفجوة التنموية بين اليمنوكوريا الجنوبية من صفر تقريبا في ستينات القرن الماضي إلى نحو 140 عاما في الوقت الحاضر.
وزادت الحرب الأهلية في اليمن التي تدور رحاها منذ أكثر من خمس سنوات الطين بلة بحيث سرقت منا نحو ربع قرن تقريبا من جهود التنمية وخلّفت خسائر مادية وبشرية مهولة كما تؤكد ذلك التقارير الدولية وتدلل عليه الوقائع على الأرض.
وتقدر المسوحات والدراسات التي قام بها البنك الدولي مع الاتحاد الأوربي والأمم المتحدة والبنك الإسلامي خلال الفترة 2015 -2017 بعنوان تقييم الاضرار والاحتياجات خلال مرحلته الأولى والثانية (DNA) إن تكاليف إعادة أعمار البنى الأساسية التي دمرتها الحرب من طرق وجسور ومدارس ومستشفيات ومساكن وخلافه نحو 87 مليار دولار حتى نهاية عام 2017 فقط. ولا شك أن هذه الأرقام قد تضاعفت بتقييم اللحظة الراهنة بما يطرح سؤالا جوهريا وهو على من تقع مسؤولية إعادة إعمار ما دمرته الحرب؟ هذه الفجوة السحيقة التي يغرق فيها اليمن يقتضي سرعة مغادرتها وردمها.
وأولى الخطوات لفعل ذلك هي سرعة وقف الحرب وبناء السلام العادل والمستدام والتوافق على عقد اجتماعي جديد يعيش فيه الجميع في وئام ووفاق وسلام.
وهم وحدهم دون الركون إلى غيرهم قادرون على فعل ذلك. وفي ظل مثل الشروط يمكن مغادرة هذه الفجوة السحيقة وردمها إلى الأبد والعيش بحرية وكرامة ورخاء. من دون ذلك فان اليمنيين بجميع فئاتهم وتياراتهم وأطيافهم سيخسرون وطنا كاملا وبضياعه يخسرون كل شيء.