إذا ما تفحصنا في مكونات و اتجاهات مؤتمر الحوار الوطني الشامل سنجد أن تيار الإدارة الجنوبية لحكم الجمهورية اليمنية قد أحكم قبضته و صار فعلا أحد التيارات السياسية الرئيسة في العمليات السياسية الجارية في اليمن . فالأشخاص في المكونات التي شملتها القائمة التي تمثل الحراك الجنوبي السلمي و في قائمة فخامة رئيس الجمهورية الكثير ممن يمثلون هذا التيار سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه ، كما تحتوي قوائم الأحزاب الأخرى الممثلة في المؤتمر أعدادا لا بأس بها من أمثالهم . بالإضافة إلى أن المؤيدين له لا بأس بأعدادهم في بقية المشاركين من مختلف المكونات سواء كانوا جنوبيين أو شماليين . لقد كتبت مقالة في شهر مارس 2013م. بينت فيه أن تيار الإدارة الجنوبية لحكم الجمهورية اليمنية أحد الحلول الستة التي تتداولها القوى السياسية و مراكز القوى في صنعاء . لكن كاتجاه ظهر قبل ذلك تقريبا في الربع الأخير من عام : 2011م. أثناء استفحال الأزمة العامة في البلاد و اشتداد البحث عن حل لها في ظل فراغ سياسي كبير حال دون إنهاء الأزمة مع أتفاق طرفي الصراع الحاد فيها على عدم ضياع جنوب البلاد و وقوعه في يد الحراك السلمي الجنوبي.
و من هناك جاء انتخاب رئيس ( جنوبي ) للجمهورية اليمنية لأول مرة منذ قيام الوحدة عام 1990م. لكن الحال تعدى انتخاب رئيس ( جنوبي ) إلى نشؤ تيار سياسي يرى أن قلب الحكم يجب أن يكون جنوبيا ، فتارة يقال أن نصف المناصب القيادية السيادية يجب أن يشغلها جنوبيون و هو ما لم يتحقق من قبل ، و تارة أخرى يقال أن على الجنوبيين أن يحكموا بقوة لمدة عشرين عاما أو ثلاثين عاما كما حكم النظام السابق . و تلك الرؤى التي تبدو معقولة نظريا مستهجنة و غير مقبولة في صنعاء و مناطق شمال البلاد حيث يقطن أغلبية سكان الجمهورية .
خاصة و أن التيار المذكور لم يقدم جديدا حقيقيا على مستويات القيادة المأمولة ، و اختيار الكوادر بمعايير جيدة ، و الحكم الرشيد ، و مكافحة الفساد ، و غيرها من الأفعال التي تبعث على انتعاش الآمال لدى جميع المواطنين في تحسن واقع الحياة و المعيشة الآن و في المستقبل القريب . فالناس لا يرون تحولا حقيقيا نحو الأفضل و الأجود في الحكم .
هل الدوافع لتمكين التيار الجنوبيين لإدارة حكم الجمهورية اليمنية ( تاجلجي ) واقعية دائمة أم آنية اضطرارية ؟ يعتبر البعض أن الدافع لحل الأزمة العامة العاصفة التي جرت في البلاد و ما زال كم منها موجود كبقايا . و يعتبر البعض الآخر أن تشجيع هذا التيار ضروري من أجل القضاء على الحراك السلمي الجنوبي و من أجل إنهاء القضية الجنوبية . و قد يصح هذا و ذاك إلى حد ما . . و لذا يقال أن من طرح فكرة هذا التيار هو مراكز قوى و أطراف من أطراف الأزمة 2011م. و يقال أن الفكرة جاءت و تقوت من قبل عدد من الدول الصديقة الراعية للمبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية . . و الحقيقة إن انبعاث تيار ( تاجلجي ) له جذور تاريخية ، فهو يذكرنا بالأجواء التي سادت عدن عاصمة الجمهورية الشطرية السابقة في الفترة : 1977 – 1981م. حيث سيطر تيار التوجه لحكم اليمن كلها حين تشكل الحزب الاشتراكي اليمني من ثلاثة أحزاب جنوبية و تسعة أحزاب شمالية ، ثم ضعف لسنوات وعاد فجأة مع إنهيار منظومة المعسكر الاشتراكي العالمية ليعيد تحقيق الوحدة اليمنية و قيام الجمهورية اليمنية عام 1990م. و لكنه فشل كشريك في الحكم بنتائج الانتخابات النيابية العامة عام : 1993م. و في نتائج حرب صيف عام : 1994م.
لسنا في هذه المقالة بصدد تطويل الحديث عن تيار الإدارة الجنوبية لحكم الجمهورية اليمنية . و إنما نحن نتناول تأثيره على مؤتمر الحوار الوطني و القضية الجنوبية و الحراك السلمي الجنوبي في المؤتمر . فالأمين العام لمؤتمر الحوار الوطني رد على سؤال بشأن ضعف تمثيل الحراك السلمي الجنوبي بقوله : " الجنوب قضية و لي أشخاصا ، و لا يمكن لأي شخص أن يحتكر أو يدعي أنه الوحيد من يمثل قضية الجنوب " و هذه رؤية تسلل من خلالها ممثلو تيار ( تاجلجي ) . فما يجمع هؤلاء أنهم أشخاص أغلبهم مع هذا التيار أو طامحون للالتحاق به قريبا أو مستقبلا . و قد جرى فحص هذه الصفة بدقة و إمعان عند اختيار قائمة الحراك للمشاركة في المؤتمر ، و كذا في قوائم فخامة الرئيس و تم شطب أسماء مرشحة ممن لا يحملون تلك الصفة ما عدى قلة بقوا للتمويه . و بالتالي هم حراكيين جنوبيين نعم ، و لكنهم قليلون و قليلو التأثير لأنهم تيار معين الرؤى و التوجهات التي تختلف تماما عن رؤى و توجهات الحراك السلمي الجنوبي بشكل عام .
من هنا ، و لأن الجميع يعترفون بأن تمثيل الحراك الجنوبي السلمي و القوى السياسية و الاجتماعية الجنوبية الأخرى المناصرة له ضعيف جدا و منتقى ، سيأتي التأثير على إمكانات و فرص حل مسألة " القضية الجنوبية " في مؤتمر الحوار الوطني . إلى جانب معوقات أخرى تحول دون الحل الديمقراطي لل " القضية الجنوبية " في المؤتمر مثل آليات اقتراح المعالجات و آلية إقرار الحلول النهائية التي سيتخذها المؤتمر و غيرها . و حتى في حالة إضافة ممثلين للحراك السلمي الجنوبي فإن عددهم لن يصل إلى عدد الممثلين الحاليين باسمه . و لن يؤدي ذلك إلا إلى وجود حوار جنوبي – جنوبي داخل مؤتمر الحوار الوطني نفسه ، و هو مقترح وضع قبل بدء المؤتمر بمده بأن يجتمع الجنوبيون المشاركين فيه على حده لمناقشة " القضية الجنوبية " . و قد يقود إضافة ممثلين أو الحوار الجنوبي المنفصل إلى اتفاقات ، و الاحتمال الأقوى أن يقود إلى انشقاقات أو إلى مفاوضات طويلة جدا في محفل ذا سقف زمني محدود . و لذا تتردد إشاعات بأن مؤتمر الحوار الوطني سيمتد عامين .
على الصعيد العام لتوجه تيار الإدارة الجنوبية لحكم الجمهورية اليمنية كتب محللون و سياسيون في صنعاء بأن ( الجنوبيين يقعون في الفخ مرة أخرى ) مثلما حدث في الفترة : 1990 – 1993م. أي أن الانتخابات العامة الرئاسية و الانتخابات البرلمانية في العام القادم ستسلب هذا التيار قوته و سيمنى بخسارة فادحة إذ أن الأقلية في جميع الأحوال لا يمكن أن يحكمون دون موافقة الأكثرية أو الخضوع لهم . . و بعضهم السياسيون و المحللون سمى هذا التيار بمجوعة : ( أبين / الجنوب / الموالون لفخامة الرئيس ) أي الموالين لفخامة الرئيس من مناطق الشمال في محاولة لتحميل كل الجنوب ما يفعله تيار ( تاجلجي ) . و هناك أخبار و مؤشرات كثيرة تؤكد أن تيار ( تاجلجي ) أصبح له تحالفات قوية مع القوى السياسية و مراكز القوى المتنفذة في صنعاء و هي لا تمانع في تقاسم السلطة معها بشروط أعلن عنها سابقا أهمها حل القضية الجنوبية بأي شكل من الأشكال .
و عند تناول عن مستقبل تيار الإدارة الجنوبية لحكم الجمهورية اليمنية قد يثير الجواب إرباك و ارتباك للحراك السلمي الجنوبي و القوى الاجتماعية و السياسية الجنوبية المناصرة له . لأن التيار بدأ عمله أولا داخل الحراك نفسه منذ انعقاد المؤتمر الجنوبي الأول في القاهرة في نوفمبر 2011م. ثم مستخدما بعدها إمكانات الدولة و أموالها و نفوذها حتى وصل بقوة إلى مؤتمر الحوار الوطني الشامل . . و تنظر القوى السياسة و مركز القوى الأخرى له على أنه قصير الأجل قويا و طويل الأجل ضعيفا .
و بالنسبة لوجهة نظر أمثالنا من الباحثين فإن تيار ( تاجلجي ) يضع الجميع على أبواب مرحلة جديدة يصعب التكهن بنتائجها و مساراتها و مع ذلك فهي تثير التخوف و الخوف . و تبدأ هذه المرحلة في مؤتمر الحوار الوطني قهو ( التيار ) إذا أستطاع فرض رؤيته لحل " القضية الجنوبية " من خلاله فقد يعيد القضية الجنوبية إلى مربع جديد يعتمد على مدى قوة الحراك السلمي الجنوبي و القوى السياسية و الاجتماعية الجنوبية المؤيدة له في مقاومة الحل المفروض بالقوة ، و هو إن فشل في حل " القضية الجنوبية " في مؤتمر الحوار سيصبح فريسة سهلة و ضحية سائقة لمراكز القوى و النفوذ و القوى السياسية في صنعاء .
و في جميع الأحوال نتمنى من الله – عز و جل - أن لا يقودنا تيار ( تاجلجي ) إلى صراع مسلح في محاولة لفرض حل قسري للقضية الجنوبية أو أن يبقي القضية الجنوبية قائمة بدون حل يعد انتهاء مؤتمر الحوار الوطني .
هذا في حالة أنه لم يفهم جوانب اللعبة الخطيرة التي يلعبها الآن . فبعض اللعب السياسية الخطرة تبدو عند البدء فيها رائعة و مبدئية جميلة و بطولية ، و بها شعور نخوة تاريخية محملة بمزايا السلطة و منافعها و معطرة بعطر المجد الساحر .