بينما الجنوبيون يترقبون لقاءات ممكنه للزعامات المتفرقة بين العواصم ، تسير أروقة مؤتمر الحوار في صنعاء مختنقة باللجان والأوراق وضبط التقنيات والشكليات العامة مع غياب المحتوى الحقيقي والنوايا الصادقة . فكل شيء يشير إلى انه لا توجد جهة توفر ضمانات حقيقية لتمكين الحراك الجنوبي من بلوغ أهدافه غير استمرار وجوده القوي وتفاعلاته الإيجابية على الأرض . هذه الحقيقة يجب إدراكها قبل أي حديث .
2) رؤيتا المؤتمر والإصلاح :
- المؤتمر الشعبي يعتبر القضية الجنوبية " هي جزء من القضية اليمنية الكبرى ولا يمكن النظر إليها في معزل عنها وان جذورها تعود إلى دورات العنف والصراع التي شهدتها اليمن جنوباً وشمالاً ". إي انه ينسف القضية الجنوبية من أساسها ويعتبرها جزءاً من قضية كاملة ورئيسه وبالطبع فان حلها يأتي بشكل ضمني "في إطار الحل التاريخي الشامل للقضية اليمنية "، حد استنتاجات المؤتمر الشعبي .
- ويرى حزب الإصلاح بعد سرد تاريخي للثورات والمنعطفات ان القضية الجنوبية " نشأت بفعل السلوك التدميري للسلطة بعد حرب 94 ، والذي نالت منه الجنوب النصيب الأكبر فأشعل الحراك الجنوبي وتنامت الأحاسيس بتعذر التعايش مع الذين نهبوا ثروات الجنوب واستباحوها" ، لكنه يذهب نحو منطق آخر حين يعزي المسببات الحقيقية للفشل الذريع في بناء الدولة الوطنية بعد الوحدة ، خلال المرحلة الانتقالية ، " إلى إخفاق النظامين السياسيين في الشمال والجنوب في بناء الدولة التي تستوعب في هيكلها مختلف القوى الاجتماعية وهذه الحالة عكست نفسها في الفشل من بناء كتله تاريخيه تضع الأسس لإقامة الدولة وبنيانها المؤسسي " ، أي انه نأى بنفسه عن كل التواريخ تلك واقترافه إثم الشراكة في حرب 94 والإعداد لها .
الرؤيتان اذاً تختلفان في تشخيص القضية الجنوبية ، وجذورها لكنهما متطابقتان في النظر لكيفية حلها وان لم يعلنا ذلك . ولهذا لا المؤتمر ولا الإصلاح يسعيان لحل حقيقي والاعتراف بان الوحدة قد خرجت من أيديهما ، فالمؤتمر تقوم سياسته على مصالح قياداته ، التي تجسد تحالفات مختلفة ، ورؤيتها لقضية الجنوب وقضية الشمال من تلك الزاوية ، زاوية الحق في الحكم والاستملاك . بينما موقف الإصلاح من مشاريع الوحدة أو غيرها يخضع بطريقه صارمة للايدولوجيا العقائدية التي تتجاوز المسائل الوطنية والقومية نحو بناء دولة الخلافة الواسعة بتلك المفاهيم التي انقرضت منذ قرون طويلة . اذاً الحزبان الشماليان لا يمكن لهما ان يكونا حاملين للتسوية التاريخية في اليمن ولن يكونا بعد زمن طويل ،
3) جديد الاشتراكي :
اما الحزب الاشتراكي اليمني فلا يزال عالقاً في التزاماته النظرية ولو قدم تحليلاً لجذور وحلّ القضية الجنوبية لأغرق الناس وهم يحاولون فك شفراته ، فلم يكن مفهوم الوحدة اليمنية في أدبياته قد حمل بعداً قومياً لكنه اعتبرها منذ نشوئه قضية وطنيه داخليه وهدف وجودي عقائدي دون معرفة الشروط الغائبة والعصية والتي لن تتوفر حتى مع تقادم التاريخ في المنظور من هذه الألفية ، وهكذا نصب الحزب فخّاً تاريخياً عظيماً أوقع دولة الجنوب فيه بغض النظر عن الدوافع المباشرة لاتفاقية 22 مايو . ودون ان يعيد قراءة المشهد على ضوء معطيات الواقع الجديد، لا زال الحزب غارقاً في الفولكلور السياسي ونمذجة المستحيل في فضاءه النظري ، مع تعديل طفيف في رؤيته يتعلق بتغيير ما لشكل الدولة الموحدة ( الاتحادية دون تفصيل واضح ) منطلقاً ربما من ضرورة تخفيف العبء الأخلاقي ألذي يحمل أوزاره .
4) التسوية الواقعية :
إن أي حديث عن تسوية واقعيه للقضية الجنوبية بمعزل عن طموحات الجنوبيين باستعادة دولتهم كهدف رئيس ، سيبقى تكريس للواقع الحالي المأزوم والمرشح ، في حال استمراره ، لاحتمالات مخيفه ، أي أن التسوية التاريخية الحقيقية المنظورة بالعين المجردة تكمن في أن يشرب الأطراف جميعاً القهوة الأخيرة ، ويعترفون بان المجتمع في الشمال وفي الجنوب ، بقواعده وبنخبه الواسعة ، تنقصه في الحقيقة القيم المادية والمعنوية الضرورية لتجعله حاملاً حقيقياً ومؤهلاً لمشروع سياسي ضخم كالوحدة اليمنية ، والتي تتطلب بالضرورة روح جديدة وعميقة لم تتوفر بعد ولن تتشكل في المدى المحسوب .
اذاً لا تسوية خارج الاعتراف بان الوحدة ما أن بدأت حتى غادرت تاريخها ومبررات وجودها و قيمها وفلسفتها ، وأثبتت بأنها فاقدة للأهلية ولشروط البقاء ، وتحوَّل حاضنها الشعبي في الجنوب إلى ثائر غير مهادن عليها ... ولم يبق غير العمل على ضمان وحدة المجتمعات الروحية والحفاظ من الزاوية الإستراتيجية على وحدة المصالح في الاقتصاد والأمن والاستقرار ، أي نموذج تكاملي في إطار التنوع ، والاعتراف بان أهم وأنجح مشاريع التوحد في العالم تكمن في الوحدة الاقتصادية العقلانية بعيداً عن الأحلام السياسية ، وحدة المصالح وتحقيق نهضة على صعيد القيم السياسية الحديثة وعلى صعيد التنمية الشاملة المستدامة .
5) القيادات داءٌ مستبدّ ؛
أمّا بالنسبة لقيادات الجنوب في الخارج فلا يظن احد ان جوهر خلافاتهم يكمن في معرفة القضية الجنوبية وطريقة الحل الناجع ، بل في مواقعهم فيها اولاً ، وفي قراءتهم للمواقف الإقليمية والدولية المتغيرة وفقاً للمصالح وطريقة تفاعلهم معها ثانياً . بقي شيء مهم وهو أنَّ على الجنوبيين ان ينبذوا أي محاولات للشحن المناطقي أو إسقاط عبء التاريخ على رؤاهم وان يتحرروا من الخوف من المستقبل ، وان يدركوا الحقيقة بان الدول في كل العالم تكونت في الماضي البعيد أو القريب من مجموعة أقاليم ومناطق اتحدت مكونة تجمع حضاري متكامل ومتجانس في إطار ما بات يسمى بالدولة ، وبأن أزمات الجنوب أتت من أزمات القيادات ولم تأت من اختلاف المجتمع حيث لا توجد منطقة صاحبة رياده أو أكثر ثوريه من الأخرى ولن توجد منطقة سامية وأخرى دونية ، بل يوجد مجتمع يعترف بالتنوع والتعدد ويسعى للمدنية والاستقرار والنهضة ، فالمناطقية وجع عضال على الجميع ان يقتلونه بداخلهم ويحرقونه في أعلامهم وأحلامهم .