كانت ولاتزال الإشكالية التاريخية الأكبر في التاريخ السياسي الحديث لجنوب اليمن تتلخص في غياب شكل ومضمون "القوة السياسية المنضمة" وفي غياب البرنامج السياسي المعبر عن آمال وتطلعات الجنوبيين .. إذ مازال الجنوبيون يعانون من غياب القوة السياسية المنضمة والبرنامج السياسي الحقيقي والفعال الذي يلبي مطالبهم ويحقق تطلعاتهم . عرف النظام السياسي الجنوبي أشكال وتوجهات سياسية عدة ، كان أبرزها تجربة أعتناق الفكر الشيوعي والأشتراكية العلمية وصولا لمرحلة الأنفتاح في مقتبل فترة الثمانينيات ، إلا أن التجربة الأخيرة أقصيت وحوربت وأنتهت بكارثة الصدام المسلح في أحداث "يناير 86" ، لأتهامها بمحاولة إقصاء التجربة الأشتراكية الحليفة للأتحاد السوفييتي وبمحاولة التمهيد لتكريس الرأسمالية المعادية تاريخيا للفكر الأشتراكي الذي تبناة الرفاق في الجنوب .
فكلا التجربتين والأيدلوجيتين "الشيوعية الماوية" و"الأشتراكية اللينية" ، أفرزت العديد من المساوئ العقدية الأخلاقية والسياسية التنظيمية في تاريخ الجنوب السياسي وتسببت بموجات عنف ضارية ومؤسفة لم تكن في صالح كل الأجنحة المتصارعة على السلطة في الجنوب .. نظرا للتزمت العملي في التطبيق والتطرف العقلي في الأعتقاد والممارسة والتي كانت تصل إلى درجة الإلحاد الكلي والمترسخ الإيمان بنظرية "لا إلله والحياة مادة" لدرجة ان منظري الأيدلوجيتين من العرب تفاجاءوا من طريقة الرفاق وسلوكهم العملي في تطبيق النظريتين ووثقوة في مذكراتهم السياسية لاحقا ومنهم ممن مازالوا أحياء ومازالوا شهودا على عبث ونزق الرفاق الأموات والأحياء .
بل وأثبتت كل تلك التجارب في الجنوب ، على أنها كانت لاتعدو عن شعارات ثورية فارقة المضمون وتائهة الهدف وبعيدة كل البعد عن متطلبات إدارة الدولة والسلطة وأنها لم تكن أكثر من نظام عسكري أستبدادي متسلط قاد شعبة إلى محارق الثورة وأعتمد ثقافة "التطهير الثوري" بنزق اقصائي لايمت بعلاقة لنهج الدول والأنظمة السياسية الحقيقية التي تسعى لنهضة أوطانها وشعوبها .
فكيف لنا أن نوجد مقاربة منصفة وموازية للنظريتين الأشتراكية والشيوعية في الجنوب ، إذا ماوضعنا باعتبارنا ان حالة "الجمود الفكري" لدى الفريقين الشيوعي والأشتراكي كانت المحركة والمشغلة الرئيسة للعداء المدمر بينهما وللأستعداد الكامل لديهما لتدمير بعضهما البعض وهذا ماحدث لاحقا وأفضى لبدء تشكل عوامل "الأنهيار الكامل للنظام السياسي في الجنوب" .. فلم يعرف الجنوب تعددية سياسية بناءة ولاحيزا نسبيا لحرية الرأي والتعبير فيما عدا السنتين الأخيرتين من فترة الثمانينيات والتي شهدت أنزياحا ملفتا للرأي والتعبير ، لكنه لم يدم طويلا بسبب انفجار الصراع الدموي المسلح بين الرفاق و"الأخوة الأعداء" .
وبقي أن نسجل في "سفر مجلد إصحاحنا الجنوبي الثالث" ان الجنوب كان قادرا على أجتياز كل الفترات الصعبة التي ألمت به لولا "التيه السياسي المرتبك"والذي شكل عائقا منيعا في وجه كل المحاولات التي كان من الممكن أن تنقذ الجنوب ومستقبل الجنوبيين من التفكك والأنقسام والأختلاف والفرقة والأبتعاد عن كل مالة صلة بوحدة الشعوب وأنظمتها السياسية الكفؤة في تحمل مسؤولياتها وأعباءها ، إلا أن الأماني لاتنال بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا وما أستعصى على قوما منال إذا الإقدام كان لهم ركابا وذلك ما يجهله الجنوبيين وأنا واحدا منهم .