بالأمس أكملت 49 سنة من عمري ذهبت كلها كأنها عشية أو ضحاها، لم تبق منها سوى بقايا ذكريات كأنها أضغاث أحلام، كلما أحاول أستحضر أحداثها أجدها تختلط وتتداخل حتى تختفي صورها أو تفقد وضوحها وترتيبها. ولدت عام 1972م في قرية صغيرة جدا في منطقة أورمة اسمها منصب تتبع مودية أبين، يوم ولدت كانت قريتي عبارة عن عشرة بيوت فقط معظمها مبنية بالحجارة ولم تكن في هذه القرية الصغيرة كهرباء ولا ماطور فضلا عن الأجهزة الكهربائية تلفزيون وغسالة وثلاجة وغيرها، لم يكن يملك الناس شيئا يصلهم بالعالم إلا الإذاعة التي تعمل بالبطاريات ،وكذلك لم يكن في قريتي هذه مسجد، أما المدرسة فكانت تبعد عنا حوالي واحد كيلو متر نذهب إليها مشيا على الأقدام ذهابا وإيابا. مثل القرى الريفية كان الناس في قريتي مشغولين بالرعي والزراعة، أما الشباب فهم في الغالب عسكر يقضون معظم أيام السنة في معسكراتهم في عدنوأبين وشبوة ولحج وحضرموت والمهرة . وطأة قدماي المدرسة في سبتمبر عام 1979م وقضيت في مدرسة القريبي أورمة ثماني سنوات مع عدد من زملائي الذين أصبحنا لطول الصحبة مثل الإخوة ولازالت حبال الود بيننا موصولة وان كان بعضهم قد غادر الدنيا إلى الآخرة. في عام 1983م دخل إلى بيتنا أول تلفزيون في القرية وكان تلفزيون أسود أبيض يعمل على بطارية فكان يجتمع في حوش دارنا كل أهل القرية رجالا ونساء وأطفالا لمتابعة مسلسل الساعة السابعة ومسلسل الساعة التاسعة وبعض البرامج مثل برنامج الشاشة والمشاهد. وفي نفس العام استقل أبي عن إخوته وحصلنا على الحكم الذاتي وسافر أبي إلى جيشان للعمل. عام 1984م دخل أول ماطور إلى قريتنا على يد والدي حفظه الله وكان ماطورا صغيرا ياباني الصنع لاتزيد قوته عن 950 شمعة(أقل من كيلو) يعمل بالبترول . عام 1986م كانت معركة بعاث بين الإخوة أعني معركة 13 يناير وكان وقعها علينا عظيما حيث قتل من قتل وسجن من سجن وخرج معظم الرجال إلى الشمال، وقدم بعض أقاربنا من عدن وأقاموا معنا في القرية. وكان من القادمين من عدن هروبا من الحزب الاشتراكي شاب عدني من البريقة اسمه منصور عقلان أقام في قرية مجاورة لقريتنا مع صديق له من أهل القرية، وكان منصور هذا شابا متدينا تشع من وجهه أنوار الإستقامة( وله معي قصة تكتب بماء العيون) فمن خلاله عرفت المسجد والصلاة وتفاصيل الدين وهو أول من وضع قدمي في طريق الأنبياء عليهم السلام. بعد الحرب بمدة أدخل الوالد إلى القرية ماطور عبارة عن مضخة( بخ) جاء بها من جيشان وأضفنا لها دينمة خمسة كيلو ومددنا الكهرباء إلى بيوت القرية كلها، وكنا نشغل الماطور بعد غروب الشمس حتى الساعة العاشرة ليلا ثم تخلد القرية والماطور إلى النوم. عام 1987م انتقلنا من بيتنا القديم إلى بيت جديد في أسفل القرية كلف بناؤه 120 ألف شلن . وفي نفس العام دخلت الكهرباء إلى قريتنا وفرح الناس بها فرحا شديدا . سبتمبر عام 1988م انتقلت من مدرسة أورمة في قريتنا إلى ثانوية مودية وكانت بحق نقله كبيرة بالنسبة لطفل قروي قضى حياته بين جبال أورمة في تلك البيوت العشرة، فقد تعرفت على طلاب جدد من جميع قرى مديرية مودية وكان أول طالب أتعرف عليه في الثانوية هو ياسر علي محمد الجلد حيث جلس بجانبي في الصف وبدأنا نتعرف على بعضنا ولا يزال الحب بيننا متينا إلى اليوم، وفي الثانوية كان مستوى الدراسة قويا فمعظم المدرسين كانوا فلسطينيين وبعضهم عراقي وكان مستواي في الدراسة متقدما ولله الحمد. وفي الثانوية تعرفت على بعض الشباب الصالحين وكنا نتبادل أشرطة كشك والقطان وحسن أيوب سرا كان ذلك في السنتين الأخيرتين من الثانوية، كانت سنوات الثانوية جميلة وسعيدة ومحفزة والشغف للعلم والدراسة والقراءة في مستويات عالية إلا أن الكتب والمجلات كانت قليلة ونادرة في موديه. ومما أتذكره أننا كنا نتابع أخبار الجهاد الأفغاني وكانت تصل إلينا أحيانا مجلة البنيان المرصوص ومجلة الجهاد ومجلة المجاهد وكلها مجلات تعني بالشأن الأفغاني تصدر من بيشاور، وكذلك أتذكر أنني كنت اتابع أخبار الجهاد الأفغاني من إذاعة لندن وأتذكر الليلة التي سقطت فيها جلال آباد وحينها قالت إذاعة لندن أن الطريق إلى كابول بات مفتوحا. عام 1989م حصلت على هدية من خالي عوض كتاب ( منهاج المسلم) للشيخ أبي بكر الجزائري وكان بالنسبة لي فتحا مبينا فكنت ألتهم صفحاته وأعيش مع حروفه وقد كررت قراءته لأكثر من عشر مرات. وفي نهاية هذا العام بدأت تتسرب أنباء عن الوحدة ونهاية المنظومة الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتي وجاء جورباتشوي بالبيريستويكا (إعادة الهيكلة) وفرحنا بذلك رغبة في الانفكاك من حكم الحزب الاشتراكي. وفي هذا العام بدأ التنقل بين الشطرين بالبطاقة الشخصية فذهب بعض أهلنا لزيارة الأهل في تعز. في 22 مايو 1990م أعلنت الوحدة اليمنية وسجدنا لله شكرا وسالت دموعنا فرحا، فقد كنا نعاني ككل الشعب من هيمنة الحزب الاشتراكي ثم لنا نحن معاناة أخرى هي المناطقية حيث كانت منطقة معينة تحكم البلاد بعد 13 يناير ثم لنا نحن (الإسلاميين) معاناة ثالثة، فجاءت الوحدة فرفعت كل أشكال المعاناة تلك، وإن كانت بقيت للحزب سطوة وهيمنة لم تسقط إلا بعد حرب 1994م . فرحنا بالوحدة كثيرا فقد عاد بعض أهلنا وقراباتنا من الشمال بعد سنوات من التشريد والنفي والاغتراب. عام 90م وفي مناسبة وفاة امرأة من قريتنا تعرفت على الشيخ الخضر ناصر عوض الوليدي من خلال تلاوته المتميزة للقرآن الكريم وهو من الذين نزحوا في السبعينيات إلى السعودية، وبالتعرف عليه فتحت لي نافذة إسلامية جديدة، فكنت ألتقيه كثيرا وأعارني الكثير من كتبه منها كتاب عقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري وفقه الزكاة وظاهرة الفقر والحلال والحرام والتشريع الجنائي وغيرها. وتعلمت منه بعض مباديء التجويد. سافرت عام 90م إلى تعز لحضور دورة علمية في المعهد العلمي، وكان من المدرسين فيها الشيخ عبد الرحمن قحطان والشيخ عبد الحافظ الفقيه، واشتريت من مكتبات تعز بعض الكتب. وكان من الكتب التي قررت في الدورة البيقونية وقد حفظتها والتحفة السنية والفقه الميسر. من الكتب التي قرأتها حينها رسائل حسن البنا وحديث الثلاثاء ومذكرات الدعوة و الداعية وبعض كتب فتحي يكن وغيره . وقعت هذه الدورة بعيد غزو الجيش العراقي للكويت، وهذا الحدث يعد من الأحداث العظمى التي عاصرناها والتي لازالت آثارها باقية إلى اليوم. عام 1991م أكملت الثانوية ثم عينت مدرسا إلزاميا لمدة سنة في منطقة جيشان . وبعدها سافرت إلى صنعاء للدراسة في جامعة صنعاء كلية التربية قسم الدراسات الإسلامية، وكانت فترة الجامعة هي أخصب سنوات العلم والقراءة والاطلاع فقد درست بالإضافة إلى الجامعة في معهد الدعوة شارع تعز حينما كان المعهد لايزال في مسجد الدعوة وكان مشايخي فيه هم الشيخ عبد المجيد الهتاري رحمه الله والشيخ محمد العامري رئيس حزب الرشاد والشيخ عبد الله الحاشدي والشيخ كمال بامخرمة. وتعرفت في هذا المعهد على عدد من الإخوة الطلاب منهم الشيخ فؤاد الخامري ونبيل غشيمة عادل النمر ومفيد السلامي وغيرهم . وكنا نحضر دروس الشيخ حسن حيدر في مسجد الكميم وكانت له دروس في شرح صحيح مسلم وشرح كتاب الكفاية للخطيب البغدادي، ونحضر الجمعة غالبا عند الشيخ عبد الله صعتر في مسجد قريبا من باب اليمن. وفي هذه الفترة أنغمست في القراءة فقرأت عددا من كتب الأصول والمصطلح(أذكر أنني قرأت تدريب الراوي مرتين وقرأت فتح المغيث ومحاسن الإصطلاح، فضلاعن الباعث والنزهةوعلوم الحديث لصبحي الصالح وغيرها) أما النحو فقد قرأت في تلك الفترة الكواكب والقطر والشذور وشرح ابن عقيل وفي الفقه قرأت نيل الأوطار وسبل السلام والدراري وفقه السنة وكتب أخرى ، وفي التاريخ قرأت البداية والنهاية وأجزاء من تاريخ ابن جرير وكتب أخرى. وكنت أتابع بعض المجلات منها مجلة الأدب الإسلامي وفلسطين المسلمة والمستقبل الإسلامي ثم بعد ذلك مجلة البيان والسنة وطبعا مجلة العربي وبعض الروايات العالمية. في المستوى الدراسي الثاني وقعت حرب 1994م وكان أغلب الناس في منطقتنا مع الشرعية وكذلك كان الإسلاميون ثم حصلت بعد ذلك الكثير من الانحرافات في مسيرة الوحدة أدت إلى ما أدت إليه. تخرجت من الجامعة عام 1996م وتوظفت في نفس الشهر وعينت مدرسا في مدرسة قريتي التي درست فيها أيام طفولتي وكان مدير التربية مودية آنذاك الأستاذ عبد الله مشدود عافاه الله . تزوجت عام 1997م ورزقت بعائشة نهاية 98م وحججت حجة الإسلام عام 99م ورزقت بمحمد عام 2000م وأسامة عام 2001م، أما زين فقد تأخر إلى عام 2010م . عام 1994م سافرت إلى دار الحديث بمأرب عند الشيخ أبي الحسن حفظه الله وجلست هناك مدة عرفت فيها صالح الفقير وأبا داؤد ورضا وأبا إسحاق الدمياطي وهناك حفظت القرآن الكريم أو أكملت حفظ القرآن الكريم. لمست في الشيخ أبي الحسن ذكاء ونبوغا، وفي مأرب تأثرت بالفكر السلفي فقرأت كتب الشيخ أبي الحسن إتحاف النبيل وشفاء العليل وتنوير العينين وهذه الفترة تحتاج كتابة مطولة. في 1994م بنينا في قريتنا مسجدا وهو أول مسجد يبنى في القرية منذ تأسيسها ووضعنا فيه نواة لمكتبة فيها كتب ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وابن الأمير والألباني وغيرهم. في اليوم الذي مات فيه الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله تعالى كنت حينها في دماج وكنت أدرس عند الشيخ يحيى الحجوري والشيخ عبد الرحمن العدني كان له درس في الدراري بعد العصر، ودرس لأبي عبيدة الزاوي في العقيدة، ودرس لأبي عبيدة المصراتي في الحديث، ودرس لأبي بلال في النحو، وأهمها عندي كان درس خاص حيث درست كتاب الرائد في الفرائض عند أبي رعد اليافعي. قرأت بعض كتب الشيخ الوادعي منها دلائل النبوة والشفاعة وأسباب النزول والصحيح المسند وكتب أخرى. وقد قرأت في تلك الفترة جميع كتب ربيع المدخلي تقريبا حتى كتابه العلمي عن ابن الصلاح وأظنها رسالته الدكتوراه، فقرأت حواراته مع سيد قطب وعبد الرحمن عبد الخالق وسلمان العودة وعقيل مقطري وغيرهم وكنت ألمس فيها تكلفا(وهذه قصة أخرى لها تفاصيل) استفدت فكريا من الخلاف الذي تفجر بين الشيخ أبي الحسن والشيخ ربيع المدخلي وقرأت كل ما كتب الشيخان، وجنحت بعدها إلى الاعتدال والانفتاح واتجهت لقراءة الكثير من كتب القرضاوي ومذكراته وكتب الطنطاوي والندوي ومحمد قطب وقرأت قبلها معظم كتب محمد سرور وكتب العفاني صلاح الأمة وغيرها. وقرأت كتب محمد أبي زهرة وبعض كتب رشيد رضا والكثير من كتب الأدب العربي والمترجم. ( الرافعي والعقاد والمنفلوطي والكيلاني) وقرأت بعض كتب تاريخ الحركات الإسلامية مثل كتاب أحداث صنعت التاريخ 3 أجزاء لمحمود عبد الحليم وكتاب في قافلة الإخوان لعباس السيسي وكتاب حصاد العمر لصلاح أبو شادي ومن الكتب المفيدة التي قرأتها كتاب عن الجهاد 3 أجزاء لمحمد خير يوسف. أظن اسمه( القتال في السياسة الشرعية ). من الأحداث الكبرى التي عاصرناها سقوط الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية وظهور طالبان وغزو أفغانستان وأحداث 11 سبتمبر وغزو العراق وحرب حزب الله مع إسرائيل وحروب غزة وقبلها اتفاق أوسلو وماثلاه من أحداث فلسطينية ثم جاءت رياح الربيع العربي وما تمخض عنها. وفي عام 2011م انتقلت إلى عدن ثم عكفت على القراءة والكتابة وبدأت أنشر بعض كتاباتي في المواقع الإلكترونية والصحف المحلية ثم طبعت أول كتبي والان أستعد لطباعة الثاني. 49 سنة كانت مليئة بالأحداث الجسام لم أكن فيها مؤثرا ولم يكن لي دور كبير ولا صغير في الحياة العامة بل قضيت سنواتي وأنا شخص مغمور بسيط يعيش في الظل كمعظم مواطني بلادي فلست قائدا ولا عالما ولا مخترعا ولا كاتبا يستطيع أن يحجز له مقعدا مع الخالدين. ولكنني عشت حياتي كلها ولا أحب إلي من الله ورسوله ودينه، مشاعري ووجهتي مع ديني وأمتي وعقيدتي، وإن كنت ضعيف العمل قليل الحيلة، وأرجو الله أن لا يميتني حتى يثبت قدمي - والتي لا تزال ترتعش- أن يثبتها على الحق وأن يرزقني توبة صادقة واستقامة صحيحة ويميتني على عمل صالح وأن يحشرني مع من أحبهم قلبي من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين والفاتحين والمصلحين والمجددين. كتبت هذا عفو الخاطر بدون تحضير أو تخطيط وقد يكون فاتني الكثير والمهم. وأرى أننا بحاجة إلى الكتابة عن أهم الاحداث التي عاصرناها والتي تأثرنا بها. أبو زين ناصر الوليدي