كان أول طالب يغادر قريته في مخلاف العود بكامله إلى خارجه للدراسة والتعلم، انتظر سنة كاملة لدوره في المدرسة الأحمدية بتعز، انضم للصوفية، وتأثر بالأفكار اليسارية، أعجب برموز اليمين، وتنظيراتهم.. الدكتور حمود العودي. السيرة والمسيرة مع الكتاب والقلم من البداية إلى اليوم؟ ربما تأتي الفكرة الرئيسية والأولى مع الكتاب والقلم لأول مرة من خلال ما كنت أسمعه من والدتي ووالدي رحمهما الله عن الدراسة والقراءة،؛ إذ كان جسمي نحيلاً كثيراً، ولا أقوى على العمل في الأراضي التي نمتلكها، وأردت أن أعوض هذا النقص في جانب آخر يتمثل في الفكر والثقافة، فكانت قصة طريفة، أولا أنا أصغر إخوتي العشرة “ستة أولاد وأربع بنات” فكان الوالد حريصاً على أن يزوجني صغيراً، ثم يعطيني البندق والجنبية قبل أن يموت ويظلمني إخوتي وفقاً لما كان يتصوره؛ لكني كنت في حال مد وجزر، في عدم الوقوف في طريق رغبة والدي، وبين الخروج عن نطاق قريتي “ذي الدروب” مديرية النادرة، محافظة إب، ومنطقتي للتعلم والدراسة. وقد كان اثنان من إخوتي متوليين شئون القات والبيت كاملة وملزمين بتزويجي من قبل والدي وكانوا يعرفون رغبتي تماماً، فخافوا من دفع مبلغ وقدره 300 ريال فرانصي التي كان يفرضها عليهم والدي لتزويجي وعمل عرس كبير، وطبعاً المبلغ كبير، فشجعوني أكثر على الدراسة وأبعدوا عني فكرة الزواج، وقالوا لي نحن سنساعدك لو ذهبت للتعلم والقراءة، فأعطاني كل منهما عشرين ريالاً من أجل التجهز للسفر إلى تعز للدراسة، إضافة إلى رسالة لرجل فاضل في تعز اسمه الحاج محمد المرادي رحمه الله، هذا الرجل متصوف وكان زميل الشيخ الحكيمي في بريطانيا وقد أقاموا الزاوية العلوية في بريطانيا معاً.. وقد أرسلوني إلى هذا الرجل كي يتولى رعايتي قبل الثورة بسنتين، أي عام 1960م. وحين وصلت إلى هذا الرجل في تعز استغرب كثيراً ولم يصدق كيف وصلت إليه، لأنه يعرف أسرتي ويعرف والدي، والمنطقة، وقد كنت أول من خرج من مخلاف العود للدراسة خارج المخلاف، ففرح بي فرحاً كبيراً، وأقمت معه سنة كاملة منتظراً لما كان يسمى حينها “المنحل” في المدرسة! ما هو المنحل؟ كانت المدرسة الأحمدية بتعز في الباب الكبير، تضم ثلاثمائة طالب لا تزيد طالبا واحداً ولا تنقص طالباً واحداً، فإذا ما غادر طالب واحد منها استبدلوه بآخر، أو يموت أو يتم فصله، فوافقوا على قبولي في المدرسة حتى يتوفر المنحل، وقعدت سنة كاملة في الانتظار، حتى توفر المنحل، وكان هذا الرجل فرحاً بي كثيراً، وخلالها شاركت المجالس الصوفية والموالد، وكنت أقرأ لهم كتاب المولد في الاحتفالات الصوفية، ومرت السنة، وحدثت كوليرا للطلاب في المدرسة فمات منهم عشرة وشغرت عشرة مقاعد، فكان نصيبي واحداً منها! مع العلم أني لم أكن صغيراً حين التحقت بها، إذ كان سني تقريباً أربعة عشر عاماً، ولم أكن أعرف شيئاً غير ما تعلمته في كتّاب القرية. وخلال هذه الفترة جاء والدي إلى تعز ليزور القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس الاستئناف، شاكياً من أحد القضاة ويريد عزله من النادرة.. وحين رأيته وجدت نفسي محرجاً منه كثيراً لأني كنت قد غادرت البيت بدون إذنه، المهم استقبله الشيخ المرادي، ووجدني الوالد قد تغيرت كثيراً خلال هذه السنة في القراءة والاطلاع والجد بل وحتى في الشكل، ووجدته بعد ذلك راضياً عني. وطبعاً فقد ألحقوني بالصف الثالث الابتدائي وكان الطلاب يضحكون عليّ كثيراً لأني كبير قياساً إلى سنهم، واجتهدت وكنت أمتحن في السنة الواحدة فصلين، كما كنت أتابع الصحف المصرية وإذاعة صوت العرب، وكنت وزملائي نقيم في المدرسة لأن فيها القسم الداخلي. ولهذا انتظرت سنة كاملة لكي أحصل على الفرش والأربع الكدم اليومية، وكان لي علاقتي اليومية والمباشرة بالشيخ المرادي وغيره من المثقفين، وتعززت علاقتي بالكتاب بصورة أكبر، وبالمثقفين، وبالصحف، وبكتب مصطفى لطفي المنفلوطي، وكتب جورجي زيدان. لنتوقف عند أول كتاب وقع في يدك لأول مرة وقرأته؟ بالتأكيد هي الكتب الصوفية. وأيضاً بعض الكتب اللغوية والنحوية، مثل الأجرومية ونهج البلاغة.. قرأتها في المدرسة وخارج المدرسة. أول كتاب تشتريه من مصروفك الشخصي؟ ربما لا أتذكر اسم الكتاب على وجه التحديد، لكن هناك عدة كتب، كنت أشتريها من فائض الكدمة التي أدخرها وأبيعها وأجمع قيمتها لأشتري بها كتاباً، لأنه كانت تصرف لنا باليوم الواحد أربع كدم، فآكل منها ثلاثاً وأبيع واحدة، وقد مثلت لنا هذه الرابعة رأسمالاً للصحف والمجلات وأحياناً لشراء السكر أو الشاي.. لأن ثلاثين كدمة قيمتها تنفع رأس كل شهر! وربما كان أول كتاب هو “ماجد ولينا” لمصطفى لطفي المنفلوطي. والفضيلة، ولا أنسى أيضاً كتب خالد محمد خالد كان له أثر كبير في نفسي. جميل.. لنقل إذن مسيرة الدكتور حمود العودي ابتدأت من فائض الكدمة حتى نظرية الفائض؟! نعم... وحين عدت إلى القرية حرضت ستة من الأصدقاء في القرية على الدراسة وذهبت بهم معي إلى تعز منهم اثنان من أولاد أخي. هواية ما كنت تمارسها في تلك المرحلة؟ الرسم.. كنت مولعاً به، وكنت أرسم رسماً جميلاً، لكني تركته كما تركت الجانب السلبي من الصوفية، وبقي فيّ الجانب الإيجابي.. ماهو؟ الفكر الصوفي يخلق في الإنسان ثقة غير محدودة، ويخلق فيه شجاعة لا تقف عند حد، وقد أفادتني كثيراً خاصة في محنة التكفير التي مررت بها. أصدقاؤك الذين جلبتهم من القرية إلى المدرسة معك هل واصلوا الدراسة؟ بعضهم واصل نعم. وللعلم فالعشرة الطلاب الذين تم استبدالهم بالعشرة الذين ماتوا من الكوليرا مات منهم بنفس المرض في العام القادم أربعة! فكسبنا هذه المقاعد ومنهم الأستاذ زيد علي عنتر الذي عمل في البنك اليمني للإنشاء والتعمير. رحلتك الجامعية؟ طبعاً لها علاقة بمجيئ البعثة المصرية التي أعادت السلم التعليمي وغيرته من جذوره، وقد كانت دفعتنا طبعاً هي أول دفعة ثانوية تخرجت من الثانوية بعد الثورة. وقد أعلنوا أولاً امتحاناً للثانوية كقبول فتجمع من أنحاء الجمهورية حوالي مئة طالب، نجح منهم اثناعشر، كنت أنا أحدهم. وشهادتنا كانت من القاهرة، لأننا أدينا الامتحانات مع الجنود المصريين الذين كانوا في الخدمة العسكرية هنا في صنعاء، وقد كان هذا سنة 66م. وقد تم إيفادنا جميعاً إلى الجامعات المصرية بحراً على متن السفينة “كليوباترا” وكانت رحلة ممتعة، ثلاثة أو أربعة أيام في البحر، أتذكر ممن كان معنا في هذه الرحلة الشهيد عيسى محمد سيف. وكنت أهوى دراسة الحقوق “كي أكون مشارع”!! لكنهم أدخلوني علم الاجتماع، الذي لم أسمع به من قبل.. ولا زلت أتذكر موقفاً طريفاً لي وأنا في الجامعة أول يوم وأنا أنقل جدول المحاضرات ففوجئت ببعض الزميلات المصريات الجديدات طبعاً يتحلقن حولي بصورة مفاجئة ويسألنني عن الجدول، وأخرى تسأل عن المحاضرات، فوجدت ذلك الشاب الريفي نفسه محرجاً جدا من البنات لأننا لم نتعود على التعامل مع البنات بهذه الطريقة، وكان موقفاً محرجاً لي جدا! وعلى أية حال فقد ارتحت جدا للتخصص وقرأت كثيراً داخل الجامعة وخارجها، وشاركت أيضاً في الأنشطة السياسية هناك. وأتذكر ممن كان معي حينها الأخ الدكتور ياسين سعيد نعمان، وعبدالله عبدالإله، وآخرين، وكانت منظمة القاهرة فيها أكثر من أربعة آلاف عضو أكثر من عدن نفسها. وقد كونت مكتبة مكتملة لكنها للأسف سقطت ضحية الإجراءات الأمنية الصارمة، ومحمد خميس ودولته! غادرت لاستكمال الماجستير فجاءوا واقتحموا البيت ولم يجدوا فيها غير الكتب فأحرقوها بالكامل، وكانت تضم مراجع المرحلة الثانوية والجامعية ووثائقها، وكذا الصحف والمجلات، وكان هذا مؤلماً بالنسبة لي كثيراً.. وأيضاً مكتبة أخرى بالبلاد أتلفت من قبل الأمن أثناء تهديم بيوتنا بتهمة اليسار “المخربين” بلغتهم!! هدمت علينا ثلاث بيوت للأسف. لو سألتك عن أبرز خمسة كتب لم تنسها؟ أبرز كتاب بالنسبة لي أثر عليّ هو كتاب النظرية المادية في المعرفة لكاتب فرنسي اشتراكي شهير، وهو علم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وفيه منطقية كبيرة، ويعتبر أصلاً من اصول المعرفة. أيضاً: الكتب الاشتراكية والقومية بشكل عام، وأيضاً كتاب سيد قطب “معالم في الطريق” وله كتاب معالم في النفس الإنسانية، فيه رقي ثقافي كبير، وأنا من الناس الذين أعجبوا بأفقه الواسع.. البعض يقول أنه متشدد؟ ربما من ناحية أخرى، من ناحية سياسية، لكن إذا قرأته علمياً ستجده شيئاً آخر. وكذا الشيخ حسن البنا، هذا الرجل أنا قرأت سيرته وأعجبت بها إلى أبعد الحدود. اشتغل بمصداقية وبتفانٍ منقطع النظير قل أن نجد لها مثيلاً، أخلص لرؤيته المبدئية، يزور وينظم في أكثر من ألفي قرية، هذا أمر عظيم جدا، وكانت عنده تضحية كبيرة جدا، قد نختلف معه في بعض الجوانب، لكن الرجل صاحب عطاء ونكران للذات. شيء عظيم فعلاً. قرأت كتب اليسار كاملة؟ نعم. بشكل عام، وخاصة اليسار الأوروبي، للأسف اليسار الشرقي يتميز بالجفاف والحدة، حتى في كثير من الحالات لا يستساغ، مثل الاقتصاد السياسي الذي نسب إلى استالين. وطبعاً قرأت رأس المال، وهو كتاب غربي وليس شرقياً لأن ماركس كتبه وهو في ألمانيا قبل أن ينتقل إلى روسيا.. اليسار الأوروبي فيه نفس ديمقراطي لا يضغط على شخصيتك. المجال الأقرب إليك بعد تخصصك؟ الأدب. لأن الأدب والفن هو الجذر الجبري لكل مثقف عربي، أو يمني على الأقل. لغة أجنبية تجيدها؟ الإنجليزية. كتاب ما قرأته أكثر من مرة؟ كتاب حديث لكاتبين أوروبيين اشتغلا لمدة 14 عاماً في مجال الزراعة والأغذية، وبعد هذه المدة كتبا ما يشبه براءة الذمة في كتاب أسمياه: “صناعة الجوع” هذا الكتاب يعتبر فضيحة للعالم فيما يرتكبه من أخطاء مقصودة ومخططة ومبرمجة، تقرر أن الجوع العالمي والعنف أشياء مصطنعة. وقد قدما حقائق مهمة. هذا الكتاب قرأته أكثر من مرة. كتاب آخر؟ كتاب فرنسي كنا نستخدمه في التثقيف الحزبي اسمه دروس في الفلسفة العلمية. كان مقرراً من قبل الحزب الشيوعي الفرنسي على المبتدئين والمتوسطين فيه، وهو بديع جدا في أفكاره ومعانيه. وقد استخدمناه أولاً في الحزب الديمقراطي الثوري ثم في الحزب الاشتراكي. الشعر وحالك معه.. شاعر ما أخذ بعقلك كثيرا؟ ثلاثة شعراء: المتنبي والبردوني ونزار قباني. قصيدة ما أخذتك كثيرا؟ للمتنبي وهي من أجمل ما قيل في الغزل. يقول فيها: مَنِ الجآذِرُ في زِيّ الأعَارِيبِ حُمْرَ الحِلَى وَالمَطَايَا وَالجَلابيبِ إنْ كُنتَ تَسألُ شَكّاً في مَعارِفِها فمَنْ بَلاكَ بتَسهيدٍ وَتَعذيبِ لا تَجْزِني بضَنًى بي بَعْدَهَا بَقَرٌ تَجزي دُموعيَ مَسكوباً بمسكُوبِ سَوَائِرٌ رُبّمَا سارَتْ هَوَادِجُهَا مَنيعَةً بَينَ مَطْعُونٍ وَمَضرُوبِ وَرُبّمَا وَخَدَتْ أيْدي المَطيّ بهَا على نَجيعٍ مِنَ الفُرْسانِ مَصْبوبِ كمْ زَوْرَةٍ لَكَ في الأعرابِ خافِيَةٍ أدهى وَقَد رَقَدوا مِن زَوْرَةِ الذيبِ أزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللّيْلِ يَشفَعُ لي وَأنثَني وَبَيَاضُ الصّبحِ يُغري بي قد وَافقوا الوَحشَ في سُكنى مَراتِعِها وَخالَفُوها بتَقْوِيضٍ وَتَطنيبِ جِيرانُها وَهُمُ شَرُّ الجِوارِ لهَا وَصَحبُهَا وَهُمُ شَرُّ الأصاحيبِ فُؤادُ كُلّ مُحِبٍّ في بُيُوتِهِمِ وَمَالُ كُلِّ أخيذِ المَالِ مَحرُوبِ بيت من الشعر تردده على الدوام؟ كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب. إن الفتى من قال ها أنذا ليس الفتى من قال كان أبي مجلة ما أعجبتك كثيراً؟ مجلة الطليعة المصرية، وكانت تشكل مصدراً للفكر المستنير. واليوم طبعاً عالم المعرفة وكذا مجلة العربي. عدد كتب مكتبتك الشخصية؟ لا تقل عن ألفي عنوان. - لك كتاب أهديته لعلي بن الفضل وله قصة معك.. مزيداً من التوضيح؟ ذلك الكتاب الذي دارت حوله التهمة والمحاكمة. المدخل الاجتماعي في دراسة التاريخ والتراث الإسلامي اليمن أنموذجا. إهداء لعلي بن الفضل. لما ذا علي بن الفضل؟ لأن هذا الرجل ظلم أكثر من غيره. هذا الرجل وطني يمني لعب دوراً تاريخياً ووطنياً أكثر من غيره ولهذا ظلم حياً وميتاً.. وقد ظُلمت أنا أيضاً معه.. وطبعاً فالرجل من بلاد جيشان أسفل العود من بلاد يافع. ذهب إلى الحج وهو في عز شبابه وتم استقطابه هناك في مكة من قبل مجموعة من جنوبالعراق، كما كانوا يركزون على أهل اليمن كثيراً.. وذهب إلى كربلاء والنجف الأشرف فدرس وتعلم وأمضى عامين كاملين، وكان نهماً جداً على المعرفة، وقد أعجبت به الحركة الإسماعيلية، والحركة القرمطية هي الذراع الأيمن للإسماعيلية، وقد وجهوه باعتناق الفكرة والدعوة إليها أولاً ثلاثة عشر عاماً أولاً دون أن يعلن عنها أي شيء.، وأرفقوه بمنصور بن حوشب، ومكث تلك الفترة وانجذبت إليه عقول الناس وقلوبهم بصورة منقطعة النظير، وقد كان في اليمن حينها حوالي خمس عشرة دويلة، وبدأ لتأمين الخلف «عدن» فتحالف أولا مع المناخي ضد الحاكم الزريعي في عدن... إلخ. وقد وصل حكمه إلى صنعاء، والقصيدة المنسوبة له منسوبة زوراً وبهتاناً بل لم تنظم حتى في عصره، إنما الأئمة من شوهوا صورته تماماً.. وفيها من الخرافات ما فيها مثل أنه افتض في زبيد بكارة سبعة آلاف امرأة عذراء، وفي الجامع الكبير بصنعاء خمسمائة فتاة عذراء في يوم واحد! هذا موحد اليمن، وحاكمها لثمانية عشر عاماً.. وكان صاحب مشروع كبير. فسممه الأئمة وقتلوه. لماذا أهديته الكتاب إذن؟ إنصافاً لهذا الرجل ولدوره التاريخي، وبعد أن مات عادت الدولة الصليحية، التي تعتبر امتداداً لنفس الفكرة.