============== خرجت من عند مالك قاعة الأفراح و كثير من الأفكار تشغلني.ماذا بعد؟ كل الأبواب التي طرقتها للبحث عن عمل أُوصِدت في وجهك.ماذا عساك أن تعمل؟ عمرك تجاوز الأربعين بعامين.جربت الحياة و عشتها طولاً و عرضاً بحلوها و مرها.التعليم و قد تعلمت و قاتلت عليه بأسنانك و أظافرك من الصف الأول الإبتدائي حتى الجامعة.قد لا يعلم كثير من أصدقائك أنك فصلت من السنة الرابعة في الجامعة بعد أحداث 1986م بطلب من سفارة بلادك في موسكو و أنه زُج بك في سجن الصولبان و بعد خروجك من السجن هربت الى صنعاء و لحقتك زوجتك و طفلتك التي لم تبلغ العامين مشياً على الأقدام لأكثر من 18 ساعة حتى وصلت مدينة البيضاء الحدودية و عشت معهما في بيت لا تدخله الشمس لعام كامل خال من اي أثاث سوى فراش و بطانية و أجتهدت لتعود لتكمل دراستك في الإتحاد السوفيتي نهاية عام 1987م و كيف وقفت سفارة الجنوب ضد إستكمال دراستك لأنك لم تعد مواطن اليمن الديمقراطية و تحمل جواز الجمهورية العربية اليمنية متهمة إياك أنك جئت الى موسكو لتخدم الإمبريالية و النظام الرجعي و تدخل سفير الجمهورية العربية اليمنية الأستاذ/عبده عثمان المناضل السبتمبري رحمه الله بكل ثقله عند الجانب السوفيتي ليقبلوك في نفس الجامعة التي درست فيها.و لما وصلت الى مدينة كييف حيث جامعتك تقدم زملاؤك الذين كنت تدرس معهم بجوازاتهم الى عمادة الكلية إحتجاجا على وجودك و رفضا لمواصلتك دراستك و أعتذرت لك الكلية بكل أدب قائلة من الأفضل أن تبحث عن مدينة أخرى لأنه إذا حصل و قُتِلت في كييف من قبل زملائك سنتحمل مسؤولية قتلك و لأنه لا توجد كلية تدرس العلاقات الدولية في الإتحاد السوفيتي تم نقلك لتدرس صحافة دولية في لينينجراد و بالمقاصة أعتمدوك من سنة ثانية عوضا عن الرابعة في كليتك السابقة و حملوك عشرين مادة فوارق إمتحانات إجتزتها كلها في فصل واحد و لأول مرة في تاريخ الجامعات السوفيتية يسمحوا لك أن تقدم سنة ثالثة و رابعة في سنة واحدة . قبلت بذلك و ما حصل لك في كييف حصل لك في لينينجراد.تقدم مجموعة من الطلاب من أبناء جلدتك و طلبوا من الكلية أن لا تقبلك و بنفس عذر كلية كييف كان عذر كلية لينينجراد و تقرر إبتعاثك الى أذر بيحان لدراسة القانون الدولي و ما حصل لك في كييف و لينينجراد حصل لك في باكو و لم تستكمل دراستك الا بعد أن بدأ التقارب بين الشمال و الجنوب أثناء المشاورات على الوحدة.في عام1989م قبلتك كليتك في كييف بعد أن هدأت النفوس و أنهيت الفصل الثاني من سنة رابعة و في عام 1990م أكملت سنة خامسة و دافعت عن رسالة الماجستير متأخرا عن دفعتك الأساسية بثلاث سنوات و عدت فرحا بتحقيق الوحدة اليمنية و لما عدت الى بلدك أُبقيت بدون عمل لأنك من جماعة الزمرة و لا يحق لك العمل لأن الوحدة تحققت بين الإشتراكي و المؤتمر.لا يهم.التعليم لم يحقق لك شيئا و العمل لم تتوفق به لكن ما الذي تريده أكثر؟ عندك شقة من غرفتين مؤثثة و فيها كل متطلبات راحتك و عندك زوجة صالحة متفرغة لتربية و تعليم أولادك و عندك راتب تقاعدي ب 25 ألف ريال.ماذا تريد من الدنيا أكثر مما قسم الله لك.أطرق بابا لم تطرقه قبل.أطرق باب الله الواسع.وصلت البيت.توضأت و صليت و بدأت حياة جديدة لم أألفها من قبل.حياة تغيرت فيها كثيرا.حياة مضيئة و مستنيرة.واظبت على الصلاة جماعة في المسجد.أنام مبكرا و أصحو مبكرا و هذا ما لم أكن قد أعتدت عليه من قبل حيث كنت لسنوات طويلة قد قلبت الليل نهارا و النهار ليلا.أصحو لصلاة الفجر.أصلي في المسجد و ابقى فيه أقرأ القرآن حتى الشروق ثم أخرج و أمشي يوميا على ساحل أبين مسافة أكثر من أربعة كيلومتر ذهابا و مثلها إياباً و أعود الى البيت.أفطر و أبدأ بقراءة ما أخذت معي من كتب من المسجد و أستمع لأشرطة كثير من الدعاة و المحدثين و هكذا مع كل صلاة.ينصرف المصلون و أبقى في المسجد بعد كل صلاة أقرأ و أحفظ ما تيسر من القرآن و قراءة ما يمكن قرائته من مكتبة المسجد في الفقه و السير و الأحاديث.إنقطعت عن الناس و الحياة العامة و حصرت علاقتي بمن حولي من المصلين.قضيت ثلاثة أعوام على هذا الحال ما شعرت بطمئنينة كما شعرت بها في هذه السنوات.خلقت علاقات صداقة حميمية مع رجال لا يعرفون الكذب و لا النفاق.أذكر منهم الدكتور عيدروس عبدالله يوسف إختصاصي النساء و الولادة و الدكتور جراح رفيق رحمة الله عليه و الدكتور علي الزبير أستاذ اللغة العربية في كلية التربية و عمي صافي السقاف صاحب مقولة الدنيا جيفة رحمه الله و المهندس المعماري علي الخضر الصوفي و إمام المسجد عبدالله الشقاع الذي كنت أختلف معه لتوجهه السلفي المتشدد لكني كنت أحبه كثيرا و كثيرا من شباب المسجد الذين لا تسعفني الذاكرة الآن لذكرهم.ثلاث سنوات تفرغت فيها لعمل الخير و إصلاح ذات البين أحسست فيها أنني تخففت من أثقال كبيرة، خالٍ من كل هم كما لو أني كنت أطير في السماء.سرور و حبور و فرحة تملأ قلبي لكن الحياة ايضا كان تجذبني إليها و الظروف المالية لم تتحسن كثيرا بقت كما هي عليه و أعباء الحياة تتطلب كثيرا من المصاريف.ذات يوم قالت لي كريمة إبنتي و هي في العاشرة من عمرها: يا أبه بعد ما تصلي الفجر لا ترجع الى البيت.أخرح لعل الله ييسر لك عملا تتحسن فيه ظروفنا فالله يقول و جعلنا الليل لباسا و النهار معاشا.أمست كلماتها ترن في أذني.كنت يومها قد إستلمت المعاش التقاعدي المقدر ب 25 ألف ريال.نمت و صحوت لصلاة الفجر.أخذت من المبلغ عشرة ألف ريال.صليت الفجر و أنطلقت و عند جولة البط في خورمكسر كنت أفكر إلى أين أتحه.وقف أمامي باص و سائقه ينادي: التواهي.. التواهي.قلت معك. في الطريق ما بين المعلا و التواهي نادى السائق: حد نازل الدوكير.قلت أنا.نزلت و توجهت الى سوق حراج السمك في الدوكير بالمعلا. غدا: العمل في سوق السمك.