المرحلة الراهنة و طبيعتها السياسية في "جنوباليمن" مختلفة جذريا عن المراحل السياسية السابقة سواء قبل حقبة "الاندماج الكامل" مع "شمال اليمن" أو بعد توقيع اتفاقية الوحدة بين الشطرين و اعلان قيام "الجمهورية اليمنية" و ماتلاها من احداث و تطورات . و لعل ابرز تلك التطورات و الاحداث التي صنعت واقعا جديدا و مختلفا هي التي نتجت عن حرب "صيف94" و التي و على أثرها أقصا المنتصر الشمالي و المتمثل في حزب "المؤتمر الشعبي العام" و حلفائه شريكه المهزوم المتمثل في "الحزب الاشتراكي اليمني" من المشهد السياسي . غير ان سياسة الأقصاء و التهميش لم تطال الاشتراكيين لوحدهم في الجنوب كقيادة سياسية بل و طالت الجنوبيين كشعب و تم تسريح آلاف الضباط و العسكريين من الجيش بالاضافة لتهميش الخبرات و الكفاءات الجنوبية في القطاعين العام و الخاص و حرمانهم من الوظائف و المناصب و الامتيازات . ونتيجة لسياسة الأقصاء و التهميش التي مارسها النظام السياسي الحاكم في صنعاء تشكل الحدث و التطور الخارج عن سيطرة مراكز القوى و الاحزاب السياسية الموالية لنظام صنعاء و ألا وهو تفجر موجة الاحتجاجات و المظاهرات التي تبناها "الحراك الجنوبي السلمي" و الذي طالب حينها بتصحيح و معالجة الاوضاع في الجنوب و سرعان ما ارتفع سقف تلك المطالبات إلى حد المطالبة باستعادة الدولة الجنوبية و إعادة الوضع الذي كان قائما قبل "مايو90" . و مسار الاحداث و التطورات فيما بعد انطلاقة الحراك الجنوبي و صولا الى المرحلة الراهنة كنا قد فصلناها و أسهبنا في تقييمها و نقدها و مقاربتها ولكن مايدعونا للتوقف في مقاربات أسفارنا الجنوبية و نحن نقدم "سفر إصحاحنا السادس و العشرون" له علاقة بالغة الاهمية بالنتيجة الماثلة على الواقع السياسي في الجنوب اليوم و مكمن تلك الاهمية البالغة تتمحور حول "التركة السياسية للحزب الاشتراكي اليمني" و رؤية الجنوبيين و آراهم و وجهات انظارهم المتباينة و المتوافقة بصددها . و لعل الملفت ان اغلب قادة الحراك الجنوبي في فترة انطلاق الاحتجاجات المطالبة باستعادة دولة الجنوب كانت قد حددت موقفها الحاسم و الواضح من الحزب الاشتراكي اليمني وقياداته منذ اليوم الأول و التي تضمنت نفيا قاطعا لأي اعتراف او توافق مع الحزب و ذهبت إلى ماهو أبعد و إلى الحد الذي حملته فيه المسؤولية الكاملة عن هزيمة حرب اربعه و تسعين و القرار الكارثة من منظور قيادات الحراك والذي تمثل في التوقيع على الوحدة الاندماجية مع الشمال و التي ترى فيها تجاوزا لحق الجنوبيين كافة في منحهم خيارهم المشروع و قتها في "الاستفتاء على الوحدة" و تحديد ماذا كانوا معها او ضدها . و ليس هذا فحسب بل ان قيادات الحراك الجنوبي حملت الحزب الاشتراكي مسؤولية كل الصراعات الدموية و اتهمته بالفشل في كل المراحل .. و الى هنا نكون اقرب الى فريقين سياسين جنوبيين صريحين وان كان طرف جنوبي يلقي باللائمة السياسية الشاملة و المسؤولية الكاملة تجاه طرف جنوبي آخر و في تقديري ان موقف الحراك الجنوبي و قياداته في ذلك الوقت كان موقفا موفقا و سليما و صائبا . فالحزب الاشتراكي اليمني و القيادات السياسية الجنوبية في الخارج لم تكن لتبادر و تركب موجة الحراك الجنوبي ان لم تكن تلك القيادات الحراكية في الداخل بادرت و حركت الشارع الجنوبي .. إلا انه و في مفارقة غير متوقعة ومفاجئة عدلت قيادات الحراك عن موقفها و تقاربت مع القيادات السياسية الاشتراكية أو كما يطلق عليها مجازا "بالقيادات التاريخية" و مع كل ذلك التقارب و التكامل معها من قبل قيادات الحراك الجنوبي فقد كانت السبب الرئيس و الجوهري و من تسببت في إعاقة مسيرة الحراك و بل و تفكيكه الى كونتات صغيرة و جسدت فصامها السياسي و أزماتها التاريخية و بأثر رجعي من جديد وصولا لمتواليات الاخفاقات المتتابعة الى قبيل اندلاع حرب صيف "2015" مع قوات الحوثيين و صالح . بيد ان الذي لم يكن متوقعا و بعيدا جدا عن كل الحسابات و تقلبات السياسة و تناقضاتها الصادمة هو ان يكون نتاج الحامل السياسي للقضيةالجنوبية في نسختها المعاصرة خاليا تماما من اغلبية قيادات الصف الاول للحراك الجنوبي و ان يكون هذا الحامل او المكون السياسي عبارة عن هجين سياسي كانت له خلفية سياسية مناهضة للقضية الجنوبية و معارضة لها و بل ان بعض اركان ذلك المكون الهجين كان يشكل اذرعا و اجنحة امنية قمعية دأبت على استخدام كل اشكال التنكيل و القمع تجاه الحراك الجنوبي و قياداته و قواعده و قواه المجتمعية و البعض الآخر من اركان المكون الهجين كان يعتنق خلفية "راديكالية متطرفة" و لم تكن يوما في صف الجنوب و الحراك الجنوبي و بل على العكس تماما كانت تقف منه موقفا عدائيا و ترى فيه مهددا للوحدة اليمنية و السلم و الأمن و الاستقرار و بمنظور ديني و أيدلوجي . و البعض الآخر كان عبارة عن قيادات حراكية من التي قاتلت في الحرب ضد صالح و الحوثيين و بعيدها انطوت في اطار الحكومة الشرعية و باقي اركان ذلك المكون الذي يجسد المرحلة الراهنة عبارة عن شخصيات اعتبارية و وجاهات قبلية و مشيخية تعود لعهود التشطير و حقب السلطنات و المشيخات التي قامت على اساس استبدادها و رجعيتها ثورة اكتوبر في الجنوب و أما المتبقون من المكون السياسي الهجين فليسوا اكثر من شخصيات مستقلة و مغمورة و ليس لها حجم او وزن ولم تكن حتى مشاركة في فعاليات الحراك الجنوبي منذ انطلاقته . و ذلك يعني و بايجاز اننا امام مكون سياسي خارج عمليا و ادبيا عن نطاق الحراك الجنوبي المؤسس و الحامل الأول للقضية الجنوبية إذا ما افترضنا اننا امام حامل سياسي جدلا و يمتلك المبررات و المسوغات الموضوعية و المنطقية المطلوبة للاعتراف به كمكون سياسي جنوبي ينتمي للاطار السياسي الجنوبي الجامع للجنوبيين و يعمل تحت سقف الاهداف السياسية الثابتة للحراك الجنوبي و لم يحد عنها او يتجازوها .. و لكن المكون السياسي القائم و منذ تأسيسه و اعلانه حتى اللحظة الراهنة تجاوز كل حدود و خطوط سقف القضية الجنوبية و أقصا الحراك الجنوبي و القوى الجنوبية المؤسسة و بل ذهب الى حد الإدعاء و الزعم بانه الممثل الوحيد للقضية الجنوبية سياسيا . و ليس هذا فحسب بل و مارس لعبته السياسية بنفس الاسلوب الذي مارسه الرفاق في الحزب الاشتراكي اليمني و بأثر رجعي و أقصا جميع قيادات الحراك الجنوبي و القوى الجنوبية و خاض غمار حربين عبثيتين ضد قوى جنوبية كان حليفا لها عقب حرب صيف 2015 و لم يعترف بحقها في التعبير عن مواقفها و اضاف لفاتورة فشله السياسي فشلا اخلاقيا بان انتهج سلوكا متغطرسا و دأب على ترديد خطاب مليء بلغة التخوين و الإلغاء لخصومه و معارضيه في اكثر من منطقة جنوبية و هو الأمر الذي أدى إلى خلق حالة من الانقسام و العداء المناهض لسياساته و توجهاته و عودة اغلب مناطق و انحاء الجنوب للتمسك بخيار "الدولة الاتحادية"و الذي لم يكن ليصبح خيارا طاغيا لولا المرحلة الراهنة التي صنعها نزق و تهور و اندفاع من يتبنون تجسيدها واقعا فاق كل حدود العقل و التصور .