كتب/ إيمان رجب من الواضح أن سياسة الخط الأحمر التي اتبعها الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع الأسد، فيما يتعلق باستخدامه السلاح الكيماوي؛ لعبت دورًا مهمًّا في إقناع القيادة الإيرانية بجدية سياسة الخط الأحمر التي يتبعها أوباما مع طهران، فيما يتعلق بامتلاك السلاح النووي، وبجدية "التهديد" الأمريكي باستخدام الأداة العسكرية في حال تخطي إيران هذا الخط. وهذا الاقتناع ترجمه الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني إلى استراتيجية الانخراط البناء constructive engagement، مع واشنطن، والتي لا تهدف فقط إلى معالجة الملف النووي الإيراني؛ بل إلى تفكيك الأزمة الممتدة في العلاقات بين طهرانوواشنطن، منذ انقطاع العلاقات الدبلوماسية بينهما في 7 أبريل 1980، وهذا يكشف عن فعالية استراتيجية استهداف حلفاء العدو، في هذه الحالة سوريا، في التأثير على سلوك العدو، وهو إيران. وهذا الوضع، يعيد طرح خيار "الصفقة" بين الولاياتالمتحدةوإيران، مرة أخرى، خاصة وأنه كان الحاكم لأي تصورات خاصة بمعالجة الملف النووي، منذ إدارة أوباما الأولى. وكان التصور الخاص بهذه الصفقة طوال عام 2012 من جانب إيران يقوم على الحصول على تنازلات من قبل واشنطن حول ملفات إقليمية أخرى، مقابل أن تتخذ إيران بعض الخطوات التي تبدد مخاوف واشنطن من برنامجها النووي، وارتبط الأمر حينها بمستقبل نظام الأسد في سوريا، ومستقبل المعارضة السياسية في البحرين. وفي المقابل؛ ظلت بعض الدوائر الأمريكية تفضل أن يتم التركيز على القضية النووية دون أن يتم ربطها بقضايا أخرى، حيث كان يتم التعامل حينها مع سوريا على أنها "ورقة تشتيت" destruction للانتباه بعيدًا عن القضية الرئيسية وهي النووي الإيراني، والتي تمثل تهديدًا مباشرًا للمصالح الأمريكية بسبب تهديدها الأمن الإسرائيلي، أي كان هناك اتجاه يفضل التعامل وفق صيغة الصناديق المغلقة boxes، وأن يكون ذلك من خلال تواصل مباشر بين واشنطنوطهران، يسمح بالتوصل إلى صيغة مرضية فيما يتعلق بمستوى التخصيب الذي يمكن أن تحتفظ به إيران في مفاعلاتها النووية، وبدور محدود من قبل دول الخليج، أو لا دور. ورغم أن توقيت عودة الحديث عن الصفقة هذه المرة مختلف عن توقيت طرحها من قبل، بما في ذلك الظروف التي سادت خلال عام 2012؛ إلا أن فرص التوصل للصفقة الشاملة بين أوباما وروحاني، تظل متواضعة، خاصة أن هناك ضبابية حول حجم "التنازلات" التي يمكن أن يقدمها كل طرف للآخر. طهران.. مصالح قديمة واستراتيجية جديدة: لا يقلل وصول الرئيس روحاني للسلطة، الذي يعد "الملا الدبلوماسي"، من أهمية المصالح الاستراتيجية التي سعت إيران إلى تحقيقها من وراء الملف النووي، منذ تفجر الأزمة في 2002، والتي تدور تحديدًا حول الاعتراف بها كقوة إقليمية في المنطقة، تمتلك نفوذًا يوازي النفوذ الأمريكي فيها، باعتبارها counterpart لا يمكن تنحيتها عند مناقشة أية ترتيبات خاصة بالمنطقة، خاصة في مناطق نفوذها المباشرة، ممثلة في الخليج ومنطقة المشرق. أي أن الملف النووي يعد لإيران ورقة تفاوضية، تفاوض بها على كل ما يرتبط بنفوذها في المنطقة، وهذا يجعل مطالب إيران فيما يتعلق بهذا الملف الأكثر سهولة، من مطالبها "غير النووية". وهذا النهج يؤكده مقال حسن روحاني الذي نشرته الواشنطن بوست، والذي ترجم هذه المصلحة إلى ثلاثة أهداف رئيسية، يتمثل الهدف الأول في تأمين نفوذ إيران في المناطق المتوترة، ممثلة في العراق، وأفغانستان، والبحرين. وينصرف الثاني إلى أن تكون تركيبة السلطة في سوريا بعد الأسد لا تقلص النفوذ الإيراني هناك، ودون أن يتم تقليم أظافر حزب الله في لبنان، ولذا طرح روحاني الوساطة في سوريا، في محاولة لتأمين دور ما لإيران في جنيف 2، مقابل تدخل واشنطن بشكل ما في البحرين. ويتعلق الهدف الثالث، برفع أي قيود على قدرات إيران التي تسمح لها بالاستمرار في نشاط سياستها الخارجية، والاحتفاظ بنفوذها، والاعتراف بمكانتها في العالم، ويتضمن ذلك الاعتراف بحق إيران في امتلاك القدرات النووية اللازمة لإتمام دورة الوقود النووي، وهو ما يعني عمليًّا احتفاظها بحق تخصيب اليورانيوم في مفاعلاتها النووية، وهو ما عده روحاني "مكونًا مهمًّا في هوية الدولة الإيرانية"، وشرطًا لازمًا لتحقيق "الكرامة والاحترام لإيران في العالم"، أي أن امتلاك هذه القدرات غير قابل للتفاوض وهو "الخط الأحمر الإيراني"، وهذا الموقف امتداد لموقف إيران في محادثات ألماتا 2 التي عقدت في أبريل 2013. وبالتالي، يقتصر التغيير الذي أتى به روحاني على الكيفية التي تعبر بها إيران عن مطالبها، فبدلا من اتباع استراتيجية "معاداة الغرب" التي انتهجها أحمدي نجاد طوال السنوات العشر الماضية؛ يتحدث روحاني بلغة خطابية تشبه لغة باراك أوباما، ويتبع استراتيجية "الانخراط البناء" مع الغرب. وقد حدد روحاني أربعة مكونات لهذا الانخراط البناء، تعبر عن أبعاد جديدة في السياسة الإيرانية تجاه الغرب. يتمثل المكون الأول في وجود معرفة واضحة بما لا يريده كلا الجانبين، والتي لن تكون قضايا يمكن التفاوض حولها، وهو ما تم التعبير عنه بالخطوط الحمراء، فهناك خط أحمر أمريكي خاص بامتلاك السلاح النووي، وهو ما أعلنت إيران من قبل احترامها له من خلال فتوى خامنئي التي تحرم امتلاك السلاح النووي، وأكده روحاني، وخط أحمر إيراني خاص بامتلاك القدرة على إتمام دورة الوقود النووي، وهو ما لم تعلن واشنطن عن احترامه بعد. ويتمثل المكون الثاني في الاستعداد لتقديم تنازلات محددة لواشنطن من خلال "التفاعل البناء"، والحديث بصراحة عما يريده كل طرف، وهو ما عبر عنه روحاني بتحديده ما تريده طهران من القدرات النووية، وهو الاستخدام السلمي للطاقة النووية. ويتمثل المكون الثالث في إمكانية العمل على القضايا محل الاتفاق، بمعزل عن القضايا الخلافية، وهو ما عبر عنه روحاني في مقاله السابق الإشارة إليه، بإدانة استخدام السلاح الكيماوي في سوريا، صحيح أنه لم يدن الأسد، ولكن إدانة استخدام السلاح الكيماوي مؤشر على إدراك إيران أن الخلاف مع واشنطن حول مصير الأسد، لا يعني عدم الاتفاق على إدانة استخدام الأسلحة الكيماوية، وقد ذهب حسن روحاني إلى أبعد من ذلك، من خلال حديثه في مقابلة مع قناة إن بي سي عن أهمية جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل. ويتمثل المكون الرابع في استعداد روحاني لفتح قنوات جديدة للمحادثات مع واشنطن، بالتوازي مع آلية 5 1 التي تظل إيران ملتزمة بها، وهو ما يعد ضروريًّا لمناقشة القضايا غير النووية، وقد سبق وأشار روحاني لذلك في حديثه لصحيفة "الشرق الأوسط" في 13 يونيو 2013، حيث تحدث عن أن هذه الآلية "هي إحدى قنوات المفاوضات". - ماذا تريد واشنطن من طهران؟ تريد واشنطنإيران غير نووية، لا تضر بالمصالح الأمريكية، ولا تسعى إلى قلب موازين القوى في المنطقة على نحو يخرج عن قدرة واشنطن على السيطرة، ولذلك لم تعد الإدارة الأمريكية تضع قلب النظام في إيران هدفًا استراتيجيًّا لها، دون أن ينفي ذلك وجود بعض الدوائر في واشنطن التي تتعامل معه كأداة لتغيير سلوك القيادة الإيرانية. وبالتالي، تقوم الاستراتيجية الأمريكية التي يتبعها باراك أوباما على "التعايش" مع إيران الإسلامية، والاعتراف بها كقوى إقليمية، طالما "أزالت الغموض" حول برنامجها النووي، وطالما التزمت بالخط الأحمر الأمريكي الخاص بعدم امتلاك السلاح النووي. وهذه الاستراتيجية سبق وعبر عنها أوباما بوضوح خلال فترة ولايته الأولى، ففي خطابه أمام البرلمان التركي في 6 أبريل 2009، تحدث أوباما عن عدد من الأسس التي ستستند إليها إدارته في التعامل مع إيران خلال الفترة التالية، والتي تقاطعت بصورة واضحة حينها مع تصور دينس روس الذي تم تعيينه مستشارًا لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، ومن تلك الأسس ما يتعلق باحترامه حضارة الشعب الإيراني ونظامه الإسلامي، من خلال تفضيله استخدام تعبير "جمهورية إيران الإسلامية" في مخاطبة إيران، فضلا عن تفضيله الحوار المباشر "المبني على الاحترام المتبادل"، وقناعته بحق إيران في "لعب دور يتفق وما تمتلكه من مقدرات القوة لتأخذ مكانها الصحيح بين الأمم"، بعدما تفي بما يترتب على ذلك الحق من مسئوليات. ويبدو أن خيار الصفقة الشاملة، الذي لطالما فضله دينس روس، هو المفضل لأوباما، خاصة أن هناك طموحًا شخصيًّا له، من أجل تحقيق إنجاز دبلوماسي عجز عنه أسلافه، وهو تصحيح خطأ قطع العلاقات مع إيران بعد اندلاع الثورة الإسلامية فيها، مع احتمال تقديم أوباما تنازلات أكبر لطهران، تتعدى ما تحدث عنه روس في 2009، حيث دعا روس حينها إلى التوصل إلى صفقة تضمن منع إيران من تطوير سلاح نووي ووقف دعمها للإرهاب، مقابل حصولها على اعتراف بحقها في الاستخدام السلمي للتقنية النووية، بشرط أن يتم تخزين الوقود المستنفد في منشأة تابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى جانب حصولها على ضمانات أمنية وسياسية واقتصادية، وذلك بهدف تجنب نتيجتين: العيش مع إيران نووية أو التحرك عسكريًّا لمنعها من امتلاك السلاح النووي. - "فرص" الصفقة: إن أهمية التغير في استراتيجية إيران، ناتج عن تغير في المدركات، لأسباب خاصة بتحولات يشهدها النظام الإيراني، ليس على مستوى وصول رئيس جديد للسلطة فقط، وإنما على مستوى توجهات المرشد العام علي خامنئي. فمن ناحية، هناك تغير في توجهات خامنئي منذ انتخابات الرئاسة الإيرانية، والتي ربما تمنح قدرًا من التفاؤل بنجاح روحاني في الانفتاح على الغرب دون أن تكون هناك "معاكسات" داخلية له، خاصة من قبل الحرس الثوري الإيراني، وهذا ما يؤشر له حديث خامنئي مؤخرًا في لقائه بقادة الحرس الثوري الإيراني عن ضرورة عدم القيام بأي دور سياسي حتى وإن كان دفاعًا عن إيران، ويمثل ذلك إشارة إلى حصر أي دور سياسي خارجي ليكون بين خامنئي وروحاني. كما اتجه خامنئي للحديث عن "المرونة البطولية" التي يمكن أن تتبعها إيران تجاه قضايا محددة، وهو ما يؤشر إلى عدم "تصلب" المواقف الإيرانية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالنووي الإيراني، وقد تكون هذه "المرونة البطولية" هي المخرج لأزمة نظام خامنئي مع واشنطن، على نحو يحاكي مخرج "تجرع السم" الذي أنهى به آية الله الخميني الحرب مع العراق في 1989. ومن ناحية ثانية، يبدو أن "الملا الدبلوماسي" نجح في توظيف شبكة علاقاته داخل النظام الإيراني، على نحو يضمن مساندة خامنئي له في تحركه نحو الغرب، وهذا ما يؤشر له حديث روحاني أثناء مقابلته مع قناة إن بي سي، من أن لديه "السلطة الكاملة" من أجل التفاوض على البرنامج النووي مع الغرب، وأنه خول جواد ظريف، وزير الخارجية، بإدارة هذا الملف. ومن ناحية ثالثة، تحول الانفتاح على الغرب، وعلى واشنطن تحديدًا إلى قضية لها انعكاسات داخلية في إيران، خاصة بعد الآثار السلبية للعقوبات على الاقتصاد الإيراني، حيث تسببت العقوبات استنادًا إلى تقرير صادر عن كارنيجي في خسارة ما يزيد عن 100 مليار دولار كاستثمارات أجنبية وعوائد نفطية، كما تضاعف معدل التضخم خلال عامين وبلغ 39% خلال أغسطس 2013، وهو ما يجعل نجاح روحاني في الانفتاح على واشنطن دعمًا لشرعيته الداخلية، ولكن تظل سرعة هذا الانفتاح متغيرًا مهمًّا، قد يجعل تحركات روحاني، في حال لم تستجب لها واشنطن بسرعة معقولة، لها تأثيرات سلبية على شرعيته، خاصة مع وجود المتطرفين في أجهزة صنع القرار المختلفة الذين لا يمكن تحييد تأثيرهم طالما لم يكن هناك تقدم على الأرض. وتدرك إيران أن لعبها دور القوة الإقليمية، يتطلب شرعية إقليمية ودولية، ويتوافر تصور لدى دوائر صنع القرار في إيران هو أن توفير الشرعية الأمريكية لهذا الدور هو المفتاح للحصول على الشرعية الإقليمية، خاصة أن بعض الدوائر في واشنطن لا ترى في دول الخليج موازنًا لإيران، ولا يتم التعامل معها على أنها طرف في أي صفقة يمكن التوصل إليها مع إيران. كما تدرك واشنطن، أن معاداة إيران، أو عزلها، لم يعد خيارًا واقعيًّا، حيث إن تكلفة ذلك على واشنطن وحلفائها لم يعد بالإمكان تحملها، خاصة حين يتعلق الأمر باستمرار العقوبات الاقتصادية. وبالتالي، أصبح "الانخراط" مع إيران، هو الخيار الأفضل، خاصة مع حرص أوباما على تحقيق إنجاز دبلوماسي، قبل انتهاء ولايته، خاصة وأنه منذ بدء حملته الانتخابية في نوفمبر 2007، حرص على أن يتخذ من فتح قنوات الحوار مع إيران بدون شروط مسبقة، شعارًا رئيسيًّا يميزه عن منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، ثم عن منافسه الجمهوري جون مكين. ورغم ذلك، تظل التوقعات المرتبطة بنتائج هذا الانخراط متواضعة، بسبب كونه قائمًا على محادثات talks، وليس مفاوضات negotiations، حيث يتم الانتقال من الحديث عن الخطوط الحمراء، إلى الحديث عن الخطوط البيضاء، والمصالح المشتركة، كخطوة ثانية لإجراءات بناء الثقة بين واشنطنوطهران، وسيكون الاختراق الحقيقي في هذا الانفتاح مرتبطًا بالتواصل المباشر بين الرئيس الأمريكي، وبين المرشد العام علي خامنئي، باعتباره هو مركز السلطة في إيران.