هل تكون الثورات العربية فرصة تاريخية للإصلاح أم دورة جديدة للعنف؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن يوجّه اليوم نقاشاتنا وجدالاتنا. لكنّ أطرافاً كثيرة تسعى إلى التغافل عنه بل تهميشه، بعضهم يفعل ذلك لأنه لم يؤمن بقيمة تلك الثورات، وآخرون لأنهم ركبوا تلك الثورات ولم تعد تهمّهم قضية الإصلاح بقدر اهتمامهم بتحصيل الغنائم من تلك الثورات والجلوس في كرسي الحكم الذي حرّرته الجماهير، ولو كان ثمن ذلك استعادة منظومة الاستبداد بشعارات ومفاهيم جديدة. لكن ما سيجعل المواطن ينتبه أكثر فأكثر الى السؤال المطروح، ويبتعد عن الخطابات الثورويّة التي تحاول استلاب وعيه من جديد، هو تنامي ظاهرة الإرهاب في كل المجتمعات العربية التي شهدت ثورات أو وصلتها ارتداداتها. وعبثاً نحاول أن نقنع أنفسنا بأن هذه الظاهرة عرضية وستنتهي قريباً. لقد رسَخَتْ الظاهرة وستمتدّ وتتعمق، ما لم نتّفق على أسبابها العميقة ونضع لها الحلول المناسبة. الغالب على الخطابات السائدة اليوم هو ما يمكن أن نسمّيه «التعويم». وظاهرة الإرهاب ترتبط بعوامل كثيرة متداخلة، مثل البؤس والظلم والجهل وغير ذلك. وكل التحولات الثورية تؤدي إلى نوع من الفوضى وإلى محاولة أطراف فرض وجهة نظرها أو استعجال المغانم. ولكن، ليس صحيحاً أن كل هذه التحولات تؤدي إلى الإرهاب، الذي هو درجة متقدمة جدّاً على العنف المترتب على الثورة، بصفته صناعة قائمة بذاتها لها مكوّناتها وخصائصها. قوّة الإرهاب تتمثل في وجود أشخاص يقاتلون بموتهم، وصيغت كلّ المنظومات الأمنية والدفاعيّة لمواجهة أسلحة بأسلحة، لكنّ سلاح الإرهابي هو جسده الذي لا يوجد سلاح للتصدّي له إذا أصبح في ذاته أداة جريمة، ومن هنا تتنزّل الصعوبة الأمنية للتصدّي للإرهاب. لذلك من الضروري أن نتساءل ما الذي يجعل شخصاً يهرب من الفقر أو الظلم بالإفناء الذاتي، وأن نخصّص للعامل الثقافي والنفسي حيّزاً مهمّاً في تفسيرنا للظاهرة. لنأخذ مثال تونس، ذلك البلد الذي اشتهر بسلميّة أهله، وكانت ثورته سلميّة، لم يمارس خلالها العنف إلا من جانب واحد، وقد بهرت العالم لهذا السبب بالذات. لماذا تطوّرت صناعة الإرهاب فيه بعد الثورة؟ منذ تفجيرات 2001 ثمّ احتلال العراق عام 2003، عوّض النظام السابق عن سياسته الموالية عموماً للغرب وأميركا، بتشجيع نوع من الإعلام المنحرف الذي ما فتئ يصوّر تفجيرات 2001، والصراعات بين الشيعة والسنّة في العراق، وتغوّل «حزب الله» في لبنان وتحوّله إلى دولة داخل الدولة (بالأحرى، خارجها)، لدى الرأي العام بأنها بطولات قومية ووطنية وإسلامية ضدّ الغرب، بما أضعف المناعة الذاتية للشعب ضدّ الإرهاب، وجعله ينظر إلى الإرهاب على أنه مرتبط بالمعركة المزعومة مع الغرب، ومنفصل عن أسبابه الذاتية العميقة، من صراعات طائفيّة ودينيّة ناتجة من ضعف ثقافة المواطنة ومن استعمال الدين لتحصيل المكاسب بشتّى أنواعها، المشروعة وغير المشروعة. مقابل الخطاب الإعلامي الشعبوي والمنفصم عن السياسة الخارجية للدولة، نشأت ثقافة معارضة تتداول سرّاً كتابات سيّد قطب ومحمد قطب ثم السلسلة المزايدة بعد ذلك على أطروحة الجاهلية الجديدة، لنصل إلى فكر «القاعدة» وأخواتها الذي لم يكن إلا ثمرة زرع أينع على مهل، بما غذّى ثقافة الإرهاب ومهّد لها الطريق، قبل أن يتحوّل الإرهاب إلى سلوك وإنجاز. والتقى إعلام السلطة الذي هو ثقافتها الشعبية بثقافة المعارضات الراديكالية التي هي إعلامها البديل، التقى هذا وذاك حول تبرير الإرهاب، في عهد لم يكن أحد يتوقّع أن يصبح الإرهاب قضية محليّة. بل من المفارقات أن «المساهمات» التونسيّة في الإرهاب الدولي، من حادثة اغتيال شاه مسعود إلى المشاركة في تفجيرات العراق، مروراً بالتورّط اللوجيستي لبعض التونسيّين في تفجيرات نيويورك ومدريد ولندن، كلّ هذا ظلّ مجهولاً لدى عامّة الشعب. فالنظام السابق كان حريصاً على الدعاية لصورة تونس المسالمة، والمعارضة كانت حريصة على ألا تفتح ملف التعصب الديني المؤدّي إلى الإرهاب. لذلك يبدو الشعب التونسي حالياً من أكثر الشعوب العربية «المذهولة» أمام الظاهرة. فهي تظلّ في وعي غالبية التونسيين مشكلة خارجية يكادون لا يصدقون أنها أسفرت حتى الآن عن مقتل كثيرين من الجنود والأمنيين والسياسيين. وبسبب هذا العائق النفسي والذهني لتقبّل وجود الظاهرة، يصعب عليهم الخوض بموضوعية في أسبابها، وتكثر نظريات المؤامرة والاتهامات المتبادلة من دون دليل، ويشتدّ الجدل مقابل العمل والشقاق بدل الوفاق، بما يزيد الوضع استعصاء. علينا أن نقرّ بصراحة بأن الإرهاب صناعة قد تلجأ إليها أطراف متعددة ومتباينة الغايات، باتجاه تحقيق مصالح محددّة، لكنّ مقاومة الإرهاب تتطلب قبل كلّ شيء تنقية البلد من المواد الأوّلية التي تستخدمها تلك الصناعة ولا تزدهر من دونها، وأهمها انتشار خطابات التكفير، وتضخيم المعاداة للغرب، في حين تستجدى مساعداته الاقتصاديّة في السرّ، وفصل الثورات عن أهدافها الاجتماعيّة لربطها بالمشاريع الأيديولوجية للأحزاب ذات التوجّه الديني، وإلهاء الشعب عن تحقيق مطالبه بتوجيهه إلى جدالات دينية لا تهمّ إلاّ المتخصّصين واللاهوتيين. ولئن كان الإرهاب صناعة، فإن مقاومته تتطلب ثورة ثقافيّة مستعجلة، قبل أن يعمّ الخطب ويستحيل التدارك. فأعظم انتصار يحقّقه الإرهاب هو تجريد المجتمعات من المناعة الذهنية ضدّه، وانتشار مرض فقدان المناعة في صفوف الشعب. ولا شكّ في أنّ المجتمعات العربية والإسلامية هي التي تشهد أكبر نسبة في تضخّم هذا المرض السرطاني الخبيث، من دون الحسم والحزم في مواجهته.