لا يصح، بل لا يجوز أن يمر رحيل الزعيم العالمي نيلسون مانديلا دون تحية تشير إلى مكانته العالية وإلى أن العالم أجمع والعالم الثالث خاصة كان مديناً له بوصفه مناضلاً عظيماً ضرب مثلاً لشعوب الأرض قاطبة لا بصموده واقتداره على تحرير وطنه من الاحتلال الاستيطاني العنصري، بل في نجاحه الكبير في اختيار الحل التوافقي الذي لا يفقد مواطنيه شيئاً من حقهم في الاستقلال والسيادة على أرضهم، وفي الوقت ذاته يجعلهم يقبلون التعايش مع الأقلية البيضاء التي اعترفت بمبدأ الاستقلال والسيادة وإدانة التمييز العنصري إدانة تامة بالأفعال قبل الأقوال. وهكذا استطاع مانديلا بإصراره العنيد وحكمته الفائقة تركيع المحتل الاستيطاني الذي حاول أن يتشبث بالأرض وأن يشرد عنها أهلها كما فعل الكيان الصهيوني الاستيطاني في فلسطين. لم يكن نيلسون مانديلا زعيماً لجنوب أفريقيا وللقارة السمراء وحدها، وإنما كان زعيماً للعالم الثالث بكل ألوانه وانتماءاته ومعتقداته، فقد كان واحداً من أولئك الرجال العظام الذين لا يجود بهم الزمن إلاّ نادراً، ولم يعرف الإنسان المعاصر منهم سوى أفراد قلائل يتحملون الأذى والعذاب ويواجهون الاحداث بشجاعة وتماسك وجداني منقطع النظير. ولا مكان في هذه الزاوية لإيراد أمثلة من الشخصيات التي على شاكلة مانديلا حتى لا يخرج الحديث عن سياق هذه التحية التي أبعث بها إليه، وهو يتوارى عن العالم بجسده في حين أن نضاله وأمثولته سيظلان محفورين في قلوب الملايين من أبناء هذه الأرض التي عانت وتعاني من الاستبداد والقمع والاستعلاء العنصري. كما ستظل ابتسامته الوديعة وكلماته الناصعة حديث كل المناضلين والثوّار ودعاة التحرر بكل ما تعنيه كلمة «تحرير» من أبعاد مادية ونفسية وأخلاقية.
سبعة وعشرون عاماً قضاها مانديلا في السجن، وهو زمن طويل لا يدرك مداه إلاّ ذلك النفر من الناس الذين ذاقوا مرارة الاعتقال وعرفوا كيف يمضي الوقت بطيئاً مُرّاً ثقيلاً، وما يرافق ذلك من الحرمان من الحركة والتجول في ضوء الشمس، والحنين إلى الأهل والأحباب، إن يوماً واحداً يقضيه المواطن في سجن الطغاة والمحتلين لا يبرح ذاكرته ويظل يطارده في صحوه ومنامه، فكيف بحال مناضل دخل السجن أكثر من مرة، كان آخرها حكم بالمؤبد أمضى منه سبعة وعشرين عاماً بأيامها ولياليها، ومع ذلك فقد خرج من السجن سليماً معافى في بدنه ونفسه، خرج وقد زاده السجن تجربة وحكمة وتواضعاً ونبلاً وتسامحاً، ولم يطلب مقابلاً من مواطنيه كأن يتوجوه ملكاً عليهم إلى الأبد كما يفعل حكام كثار في العالم الثالث، وعندما أصبح رئيساً للجمهورية تحت ضغوط شعبية ساحقة رفض التمديد لأنه يكره السلطة يدرك حقيقة الفارق بين النظام الجمهوري والنظام الملكي.
هذا هو نيلسون مانديلا الذي بدأ حياته شاعراً يتحسس بالكلمات احزان شعبه وحنينه إلى الحرية والخلاص من حكم التفرقة العنصرية. ومن الشعر اتجه مانديلا إلى المحاماة ثم إلى السياسة والدعوة إلى الكفاح المسلح، ومن أجل ذلك أنفق زهرة شبابه وجزءاً من كهولته في السجن، وفي ظلماته اكتشف أقرب الحلول إلى صياغة مستقبل جنوب أفريقيا البلد الذي حكمته الأقلية البيضاء لعشرات القرون، وحاولت بالقوة إجلاء أبنائه الأصليين بإحلال البريطانيين وغيرهم من الأقليات الأوربية والأسيوية محلهم مما كاد يخل بالتوازن العرقي ويلغي شعباً بأكمله من وجوده على أرضه التاريخية، ومن عدوان على لغته وتراثه وكيانه الوطني. وما كان لسياسيٍ آخر غير مانديلا أن يقود ذلك الشعب إلى التحرر الكامل وأن يخرجه من أسر الاحتلال الاستيطاني.
ولعل ما يزيد العرب إعجاباً بهذا الزعيم العظيم موقفه الواضح والنزيه من القضية الفلسطينية التي ظل يقارنها بقضيته انطلاقاً من أن الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا لم تكن تختلف عن الكيان الصهيوني لا من حيث التمييز العنصري وفرض الاحتلال الاستيطاني بقوة الحديد والنار. وهو لم يكن ينسى أن هذين الكيانين كانا على وفاق تام وتعاون منقطع النظير، وعندما حوصر حكم الأقلية العنصرية في جنوب أفريقيا من العالم أجمع كان الكيان الصهيوني هو النافذة التي يتنفس من خلالها ليبقى على قيد الحياة.