كتب/ محمد عبد القادر خليل لم تكن تركيا واحدة من الدول التي ساهمت في التوصل إلى "اتفاق جنيف" بين إيران ومجموعة الدول الغربية (P5)، والذي أفضى إلى حلحلة المسألة النووية من خلال مجموعة إجراءاتٍ تستهدف توفير مناخٍ ملائمٍ لعمليات بناء الثقة، ومع ذلك فإن أنقرة اعتبرت أن "الاتفاق المرحلي" بين الطرفين يمثل انتصارًا للرؤية التركية الخاصة بضرورة اتباع الوسائل السلمية لحل القضية النووية الإيرانية، وتكليلا للمجهودات التي كانت قد بذلت بالاشتراك مع البرازيل في مايو 2010 لإنهاء الأزمة عبر الاتفاق الذي توصلتا إليه مع الإيرانيين بشأن "مبادلة اليورانيوم المخصب"، والذي رفضته الولاياتالمتحدةالأمريكية لتقود بعد ذلك بأيام مجلس الأمن لإصدار القرار رقم 1929 لفرض عقوبات أكثر صرامة على إيران. ومع أن تركيا بالإضافة إلى البرازيل لم تؤيدا القرار الدولي وقتذاك، غير أن أنقرة وفي خطوة مفاجئة اتخذت قرارًا في سبتمبر 2011، بالانصياع للمطالب الأمريكية الخاصة بنشر منظومة الدفاع الصاروخي بالقرب من الحدود الإيرانية، وذلك وفق منطق تأمين الذات، وتحقيق مكاسب استراتيجية تضمن أمن تركيا في مواجهة أية تهديدات محتملة تترتب على أي مواجهة مع طهران. وقد عكس ذلك التوجه ازدواجية موقف تركيا، فهي من ناحية تؤيد أحقية إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية (مدنية)، ولكنها في الوقت عينه تخشى من تنامي قدرات إيران النووية غير التقليدية، بما يدفع إلى تبني احتياطات أمنية تشكل عنصر "ردع"، وهو أمر يطرح إشكالية الخيارات والأولويات التركية ما بين المصالح الاقتصادية العاجلة التي يمكن جنيها سريعًا من الاتفاق، والمشكلات الأمنية التي قد تترتب عليه، سواء قُدِّر للاتفاق البقاء، أو هددته عثرات التوصل لاتفاق شامل وطويل المدى. المصالح المشتركة التركية – الإيرانية تتنوع المصالح والروابط التي تشكل أرضية للعمل المشترك مع طهران، وهي مصالح متعددة المستويات، ويمكن رصدها على النحو التالي: - المستوى السياسي: تعتبر تركيا أن "اتفاق جنيف" من شأنه إدماج إيران في البيئة السياسية الإقليمية والدولية ك"طرف شرعي"، بما يخفف من الضغوط الغربية التي تمارس عليها من أجل حصار طهران، ومواجهة سياساتها الإقليمية، كما أنه يمنح الأتراك فرصة تعميق العلاقات مع الإيرانيين، وذلك بعد "تطبيع" وضع إيران الإقليمي والدولي، وعلى جانب موازٍ فإن الاتفاق قد يجنب أنقرة العديد من التداعيات السلبية المرتبطة بتموضع كلتا الدولتين في معسكرين إقليميين متضاربين من حيث "الأيديولوجيا" والسياسات والأهداف. لذلك فإن الاتفاق مع الإيرانيين قد يمنح الأتراك القدرة على التقليل من حدة الخلافات التي باتت تربط تركيا بأغلب جوارها الجغرافي، بما يدعم التوجهات الخاصة بإعادة "ضبط" وتيرة علاقات تركيا الإقليمية، خصوصًا مع طهران، التي بدت خطواتها العملية من خلال زيارات متبادلة على مستوى وزراء الخارجية، ومن المرجح أن تتكلل خلال الشهور القليلة القادمة على مستويات أعلى، حيث يتوقع أن تسبق زيارة الرئيس الإيراني "حسن روحاني" لأنقرة، زيارة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، خلال شهر يناير المقبل. المسعى التركي من وراء هذه التحركات يهدف إلى توظيف الاتفاق لدفع إيران "للتحرك المنضبط" على الساحة الإقليمية والدولية، على نحو يعظم فرص التعاون لحل قضايا الصراع الإقليمي بعيدًا عن لغة التشدد والتصعيد، وفق صيغ توجِد قدرًا من الالتزامات المتبادلة بين طهران والقوى الدولية الرئيسية. - المستوى الأمني: إن التخلي عن الطموحات الإيرانية النووية أو تأجيلها، قد يسمح للأتراك بتجنب التداعيات السلبية الناجمة عن التهديد (بصورة مباشرة أو غير مباشرة) بانخراط تركيا في أي مواجهة عسكرية (دولية أو إقليمية) مع طهران لتحقيق "القدرة على الردع" ل"إحباط استباقي" للرغبة الإيرانية في امتلاك سلاح نووي، حفاظًا على الصيغة الأمنية القائمة على مسرح عمليات الإقليم. هذه المقاربة، على جانب آخر، تحد من بقاء تركيا رهينة "مظلة الحماية الأطلسية" في مواجهة التهديدات الإيرانية، التي كانت قد دفعت تركيا بحكم العضوية في الناتو لاستقبال أسلحة نووية تابعة لحلفائها، وذلك بالتوازي مع امتلاك قدرات عسكرية تقليدية تضمن حماية أمنها ضد ما قد تواجهه من تحديات. كما أن "الاتفاق" يجعل الأتراك ليسوا بحاجة للاندفاع إلى سباق تسلح نووي، قد يعيد رسم خريطة المنطقة وتوازناتها القائمة. يرتبط ذلك أيضًا بما تبديه تركيا من حرص على استمرار التعاون الأمني مع إيران بسبب ملفات الاشتباك المشتركة (الأكراد، العراق، سوريا، أمن الحدود)، وقد تجلت بعض ملامح هذا التعاون فيما كان قد أشار إليه الصحفي بصحيفة "واشنطن بوست" ديفيد أيجناتيوس، في يناير الماضي، من أن تركيا كشفت للاستخبارات الإيرانية هوية عشر شخصيات إيرانية تلتقي بأعضاء جهاز الموساد داخل تركيا، وهو ما اعتبرته بعض الاتجاهات الأكاديمية يعكس، من ناحية، نقلة نوعية في نمط التعاون الأمني بين البلدين، ويشكل، من أخرى، هدرًا لسنوات من استثمارات الاستخبارات الإسرائيلية في عمليات التجسس على إيران. وقد كان لذلك تداعيات سلبية على طبيعة العلاقات التركية – الأمريكية؛ حيث أقدمت الولاياتالمتحدة على إلغاء تسليم نحو 10 طائرات من دون طيار كان من المقرر تسليمها لأنقرة. - المستوى الاقتصادي: لعبت تركيا دورًا ملموسًا في التحايل على الحصار الاقتصادي الذي فرض على إيران، وذلك بدافع تحقيق مصالحها التجارية والاقتصادية، فقد أدى على سبيل المثال "هالك بنك" (أحد البنوك التابعة للدولة) دورًا رئيسيًّا في عقد صفقات النفط مع إيران، وذلك بمقتضى صيغة تجعل شركات تركية تقوم بشراء النفط والغاز الطبيعي الإيراني، وتحول المقابل المادي لبنك "هالك" ثم يسحب تجار الذهب الإيرانيون هذه الأموال لشراء الذهب التركي الذي يشحن لبعض البلدان العربية لبيعه، ثم تعاد الأموال لإيران، بما ساهم نسبيًّا في حل المشكلات الدولارية التي عانت منها إيران. وقد استُخدمت بعض الشركات التركية كواجهات لشراء بعض القطع الضرورية والمنتجات اللازمة لمفاعلات إيران النووية، وفق صيغ تكشف أن توجه الأتراك لتحقيق المصالح الراهنة (الاقتصادية) أفضى إلى التغاضي عن المخاوف والهواجس المرحلية (الأمنية). وقد اعترف نائب رئيس الوزراء التركي "علي باباكان" بأن "شحنات الذهب التي قدمت لإيران تم تحويلها إلى دفعات لشراء الغاز الطبيعي"، بما دفع واشنطن بعد ذلك إلى فرض حظر على بيع الذهب إلى إيران، وذلك في يناير 2013، هذا على الرغم من أن تنفيذ القرار قد أرجئ بعد بداية "الجولات السرية" الأولى بين إيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية، والتي كشف عنها بعد ذلك، على نحو ساهم بصورة مباشرة في حل معضلة إيران الاقتصادية باستمرار بعض التدفقات النقدية، والتي بلغت نحو 6 مليارات دولار خلال الشهور الست الأولى من هذا العام. وتنظر تركيا إلى مسألة الرفع التدريجي للعقوبات عن إيران، باعتبارها تمثل رفعًا للحواجز التي تعيق زيادة التبادل الاقتصادي، خصوصًا أن إيران تشكل مصدرًا أساسيًّا لتلبية حاجات تركيا من النفط والغاز الطبيعي. ومن المرجح أن تتضاعف معدلات التبادل التجاري بما يصب في صالح تركيا، فبعد الرفع الجزئي للعقوبات اتجه المئات من رجال الأعمال الإيرانيين للتعاقد على استيراد آلاف السلع والمنتجات التركية لتلبية احتياجات السوق المحلية (تصدر تركيالإيران نحو 120 ألف منتج)، وهو أمر قد يفضي إلى فوائد كبرى للاقتصاد التركي الذي بات يعاني من تباطؤ معدلات النمو، حيث تراجعت إلى نحو 2.2 بالمائة خلال العام 2013، وذلك بعد أن كانت قد بلغت نحو 9 في المائة في عام 2012. وتتجه تركيا إلى زيادة وارداتها من النفط الإيراني بنسبة 30 بالمائة، وذلك في محاولة إلى جني سريعٍ لعوائد "الحدث الطارئ"، وذلك بعد أن أفضت هذه العقوبات إلى انخفاض نسبة واردات النفط الإيراني بنحو 33 في المائة، وذلك خلال الشهور التسعة الأولى من عام 2013، وكذلك انخفاض صادرات تركيا إلى إيران بما يناهز ال66 في المائة، وذلك بسبب العقوبات الصارمة من قبل مجلس الشيوخ التي فرضت في نوفمبر من العام الماضي. ومن شأن تخفيض القيود التجارية على المعادن الثمينة أن تدفع تركيا إلى إعادة تشغيل "التجارة المحظورة - الذهب في مقابل النفط". كما من شأن ذلك أن يُساهم في مضاعفة برامج شركات السياحة الإيرانية لزيارة المدن التركية، ذلك أن السياحة الإيرانية في تركيا كانت قد ارتفعت بنحو ستة أضعاف خلال عشر سنوات (حتى عام 2011)، غير أنها تراجعت بعد ذلك بمعدل يصل إلى نحو 35 في المائة في عام 2012، وهو أمر تشير تقديرات تركية إلى أنه أفقد أنقرة نحو 6 مليارات دولار. وبلغ حجم التجارة المشتركة نحو 21.9 مليار دولار خلال عام 2012، وارتبط تصاعدها بارتفاع مبيعات "النفط مقابل الذهب". ففي الأشهر التسعة الأولى من عام 2013 لم يتعد حجم التبادل التجاري نحو 11.9 مليار دولار، وذلك بانخفاض قدره 58 في المائة، وذلك بعد أن انخفضت الواردات التركية من إيران بنحو 105 آلاف برميل نفط يوميًّا. وقد ساهم الاتفاق الأخير مع الإيرانيين في أن تشهد سوق الأسهم التركية طفرات سعرية حادة، كما تصاعدت قيمة العملة التركية (الليرة) في مقابل الدولار. المشكلات الأمنية المؤجلة ترتبط مشكلات وهواجس تركيا الأمنية في أحد أهم جوانبها، بما قد يسببه امتلاك طهران من سلاح نووي في إحداث صدع مباشر في نمط التوازن الاستراتيجي بين الدولتين، فحتى نهاية الحرب الباردة كان التوازن الجيواستراتيجي هو السائد بين وريثة الإمبراطورية العثمانية (السنية) ووريثة الدولة الصفوية (الشيعية)، غير أن تزايد النفوذ الإيراني في مساحات جغرافية أوسع، خصوصًا بعد الحرب الأمريكية على أفغانستانوالعراق، وتضاعف "القوة الإيرانية" التقليدية وغير التقليدية بعد تسارع وتيرة البرنامج النووي الإيراني، قد جعل مأزق تركيا أوضح وأكبر، فإيران بعيدًا عن "النظرية المثالية" التي تعكسها تصريحات الخارجية التركية، تمثل وفق العديد من الكتابات الأكاديمية التركية الخطر الأكبر بالنسبة لتركيا. وقد دفع ذلك الأخيرة إلى أن تحتمي ب"منظومة الأمان النووي" لحلف الناتو، والاتجاه إلى تطوير القدرات النووية الخاصة من خلال "برامج نووية- سلمية"، كما اتجهت تركيا إلى الإعلان عن صفقة مع إحدى الشركات الصينية لتدشين مشروع الدرع الصاروخي التركي، وذلك بدلا من التعاون مع واشنطن لتحقيق هذا الغرض، والتي وفر التعاون الأمني معها الحماية لتركيا على مدى العقود الخالية. وكانت إيران قد هددت بضرب الدرع الصاروخية التي قامت تركيا بنشرها على أراضيها بالقرب من الحدود الإيرانية. وعلى المستوى السياسي، فإن الاتفاق الإيراني-الغربي قد جاء بعد شهور من المفاوضات السرية، وهو ما يعني تراجع أهمية الدور التركي، خصوصًا أنه دورٌ بدا أكبر من قدرات ووضع تركيا، ذلك أن التوسط بين إيران والغرب، تعتبره أنقرة بمثابة اعتراف غربي بتصاعد الدور التركي دوليًّا، وهو تصور لا تدعمه طبيعة المواقف الدولية، خصوصًا الأوروبية منها، وتشير العديد من التقديرات الغربية أنه حينما أرادت الولاياتالمتحدة إجراء مفاوضات مع إيران اتجهت لذلك، دون وسيط وبعيدًا عن "الأضواء الإعلامية" التي تصحب تحركات الأتراك على ساحة الإقليم. وعلى جانب آخر، فقد يتيح الاتفاق مجالات مستقبلية أرحب لتعاون أمريكي-إيراني، ذلك أنه يفتح نوافذ لبناء الثقة المتبادلة على ساحات العراقوسورياولبنان وفلسطين، بما من شأنه أن يهدد النفوذ التركي الذي ارتبط في أحد أهم جوانبه بما تمثله تركيا من "حليف معتدل" في مواجهة "عدو متشدد". ويدفع ذلك إلى القول، إن تعجل تركيا لجني المكاسب الاقتصادية التي توفرها "اتفاقية جنيف"، وتجاهل ما قد يمثله من تداعيات سلبية مستقبلية، قد يضاعف من المشكلات الأمنية التي تحاول تركيا غض الطرف عنها، وذلك حال استغلال إيران الاتفاق ل"شراء الوقت" بهدف تطوير البرنامج النووي، وصولا لامتلاك سلاح نووي، باعتباره يمثل رمزًا للمكانة الجيواستراتيجية، على نحو قد يعيق فرص التوصل لاتفاق طويل المدى، وإن كان من الممكن أن يُفضي إلى سلسلة من الصفقات الصغيرة التي تهدف إلى تأخير امتلاك إيران لسلاح النووي بدلا من إزالة التهديد تمامًا. هذا بالإضافة إلى أن الاتفاق بما يمثله قد يخلق توازنًا جديدًا للقوى، ويوجد مشكلات غير مباشرة مع كل من إسرائيل من جانب، وبعض بلدان الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، من جانب آخر، كما أنه قد يزيد من "الصراع" بين الأخيرة وإيران، بما يعمق "خطوط الصدع الطائفي" التي باتت تمتد من الخليج إلى شرق المتوسط، هذا فضلا عن أن الاتفاق من شأنه أن يمنح الإيرانيين ثقة بالنفس أكبر للتحرك على مسرح عمليات الإقليم، على نحو يفضي إلى بروز تحدٍّ إضافي بالنسبة لتركيا، كونها تضع ذاتها في الجانب السني من "خط الصدع الطائفي" وأضحت أحد الأطراف الرئيسية في التوترات "السنية-الشيعية" التي أججتها أحداث لبنانوالعراقوسوريا، وهي ملفات تُعنَى بها تركيا مثلما تُعنَى بها إيران، خصوصًا أن الأتراك استثمروها كثيرًا خلال السنوات الأخيرة. عن/المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجيه