كتب/ أمين اليافعي كتب الزميل محمد عايش، وهو وخلافاً لكونه صديقاً عزيزاً، ولو عن طريق "الوايرلس"، هو من أكثر الصحفيين نباهةٍ وصفاءٍ، ويتألق دوماً بتحليلاته الفَطِنَةِ التي تتحسس بواطنِ الوهن، وتلتقط أدق الخيوط والتفاصيل لمشهدٍ غارقٍ حتى تلابيبه في رُكامِ المتاهاتِ وكومةِ الفضلاتِ الهائلةِ لسياسيين أرهقتهم ذواتهم وضنكهم الأبدي غير المأمول، كما يبدو، من مجاوزته.. كتب عايش عن وثيقة "بنعمر" باعتبارها "خارطة الطريق" لتأسيسِ فكرةِ "المُحاصصة" وعلى طريقةِ النُسخةِ اللبنانيّةِ العتيدةِ، ولكن "الطبعة اليمانيّة" ستكون، بكل تأكيدٍ، أكثر سوءاً ورداءةً وحماقةً، ليس فقط لأن مصدرهما واحدٌ، وبتخريجٍ أممي، كما في العادة، يُذكِّرُكَ، وبطريقةٍ معكوسةٍ، بالتخريج الشهير للدجاج البرازيلي (المُجمد) «ذُبِحَ على الطريقةِ الإسلاميةِ»، الخالصة ربما، ولكن لأن الاستخدام يتدخل، بدورٍ محوريٍّ، وبصورةٍ مباشرةٍ، في تحديدِ درجة الجودةِ، أعني ليس المهمُ أن يكون هُنالك منتجٌ يابانيٌّ حتى يتمتع بالصحةِ والعافيةِ، وينعم بعمرهِ المديدِ كله، ولكن المُهم أن يكون الاستخدام على المستوى عينه من استخدام المواطن الياباني! في هذا البُعد تحديداً، كنتُ قد كتبتُ منذ حوالي عامين، وفي نقاشٍ مع واحدٍ من قطيع "الجنرال" الكُثر، عن الصيرورةِ السياسيّةُ (المقصودة) التي ستؤسس لها المُبادرة الخليجية، ومما قلته: «ولا أدري، لماذا يصرُ البعضُ باعتبار الحل الذي جاءت به المبادرة الخليجية إنجازاً يجب الاحتفاء به. ففي الحقيقة، مثّل ك"عرفٍ"، ربما طويلِ الأمد، مع سقوطٍ مدويٍّ للمؤسسات في الجمهوريّةِ الكاريكاتوريّة، وستتناسل عنه جميع العمليات السياسيّةِ المستقبليةِ، وسيصبح، مع الوقت، كقدرٍ آخرٍ يستحيل الولوج منه إلى حيز "التعاقد الاجتماعي"، والمؤسسات التمثيليّة المُنتخبة، والتنافس الحر والنزيه. وهو أمرٌ جليٌّ، في ظل تفرد "مشايخ" الأحزاب والدول في صياغة المشهد، وتكالب الآخرين، المشاركين في "الهَلُمّة"، على تجهيز أنفسهم لتسلم نصيبهم الوافر من الكعكة، فالجزاء أساساً من جنس العمل، ومن كفر فعليه كفره! نقد الوثيقة: الخطاب في الشمال على العمومِ، وعودةً إلى موضوع "وثيقة بنعمر"، سأتفقُ من حيثُ المبدأ مع الزميل عايش بأن "العدالة" و"تكافؤ الفرص" و"الصالح العام" هما قضايا مركزيّةٌ في العمليّةِ المُفضيّةِ إلى استقرار الدول والمجتمعات، بينما ستؤدي منح الألويّة للأكثر كفاءةٍ إلى التقدّمِ والتنميةِ، كما أنّي أقدر له عالياً مشاعره التي نمَّت عن حرصٍ ومسئوليّةٍ خالصةٍ... ما عدا ذلك، سيكون هُناك نقاشٌ عامٌ حول المسوغاتِ والحججِ المُستلهمةِ من روحِ تلك المبادئ الأخلاقيةِ عند تناول الوثيقة بالنقد، ومدى ارتباطها وتعبيرها أي المسوغات والحجج عن الواقعِ المُتعينِ، وتداعياتِ ماضيهِ، وإنزياحات مستقبلهِ. من هُنا، يمكن رصد ثلاث مآخذٍ رئيسيةٍ عبرت، بشكلٍ أو أخرٍ، عن الاتجاه العام للخطاب في الشمال ضد وثيقة بنعمر. الانتقاد الأول، وهو أكثرها تفهماً، حاول صياغة وجهة نظره من منظور ما رآه موضوعياً، وبلغ ذروته في ما قدّمه الزميل عايش، وتمثّل في الإخلال بقيم العدالة والحق الأصيل في تكافؤ الفرص وأولويّة الكفاءة، وعاب، بدلاً عن ذلك، إعطاء أولويّةٍ "للجغرافيا" على حساب "الصالح العام". والثاني عبّرت عنه الحائزة على جائزة نوبل، توكل كرمان، بإدانتها للتمييز الجغرافي بين "أبناء اليمن الواحد" باعتباره "خيانةٍ وطنيةٍ"، وتخوفها من أن يتحول الجنوب إلى "عصبويةٍ جهويّةٍ في مواجهة عصبويّة شماليةٍ"، وفضلت اعتماد "معيار الكفاءة". الثالث، وهو الأكثر وقاحةً، دعا الأكثريّة إلى عدم السماح للأقليّة بالسيطرة على "البلاد وثرواته"، وحذّر، بلهجةٍ شديدةٍ، من الخطر الداهم «الجنوب للجنوبيين، والشمال للجميع». من المُفيد الإشارة هُنا أن هذا الخطاب، خصوصاً في اتجاهيه الأخيرِين، تخلى أخيراً، وإلى حدٍ ما، عن ترفه البلاغي وأخلاقياته المتعاليّة حيال مسائلٍ تتسمُ بالتجريدِ والغموض، ويصعب، في الواقع، قياسها وضبطها ك"الوطنيّة" و"الوحدة" و"الهويّة الجامعة" "والمشترك الاجتماعي"..إلخ، ولطالما قد استثمرها في تحقير "الآخرين"، والنكاية بمواقفهم كمواقفٍ تُعاني من نقصٍ حادٍ في المناعة الوطنيّة وقيم التحضر والحداثة! وبدأ يُفكر للمرةِ الأولى، وبصوتٍ عالٍ، بقضايا قابلة للقياس، وخاضعة للتفاوض، تتعلق بمصالح الأفراد والجماعات. وهي وضعيّةٌ مثاليّةٌ، من وجهة نظري، ويمكن للناس من خلالها الوصول إلى تفاهمات باعتبارها أحد المرتكزات الأساسيّة والأصيلة لفكرة التعاقد، فالدولة (التعاقديّة) ليست هي مجرد كنيسةٌ للمؤمنين وفقط، بقدر ما هي مشروعٌ تعاونيٌّ لتحقيق المنفعة المشتركة والمتبادلة، أو كما سمّاها روسو في كتابه الشهير "في العقد الاجتماعي" "دولة الخير العام" أو "الخير الجماعي"، حيث الخير مُدرَك للعيان بتجليه، وبنفسه، في كلِ مكانٍ جلاءً بيّناً (أود التنويه إلى أن محاولتي هُنا ستكون في أفق الفكرة المطروحة بالوثيقة، وكيف يُمكن أن تتعاطى مع الواقع؛ دون إغفال القضيّة المحوريّة في معارضتنا لها من الأساس، والتي تستثني، استثناء كليّاً وقاطعاً، الإرادة العامة "غير القابلة للفناء"، كما يصفها روسو نفسه، لمواطني الجنوب، والمُؤسِّسة وحدها للشرعيّة القانونيّة، والتي تختلف كثيراً عن شرعيّةِ التوافق التي تم "لَملَمتها" في مؤتمر الحوار. وأدعو الجميع، حتى أشد المعارضين للعمليّةِ السياسيّة، القائمة على المبادرة، برمتها، خصوصاً من الجنوبيين، إلى عدم ترك هذه الوثيقة تمر مرور الكرام، أو يتم التعامل معه بترفعٍ (أشعتٍ!)، كما في العادة، فإن يتحول هذا العمى إلى واقعٍ، فتلك كارثةٌ.. كارثةٌ!!!). قلتُ "الشمال"، مع إشارة مُعظم هذه الخطابات المعارضة لوثيقة بنعمر على ما يُمكن أن يترتب من تُبعاتٍ وتأثيراتٍ سلبيةٍ على واقعِ الجنوبِ اليوم، وأشدّها وطأةٍ، الاختلافات التي قد تنشأ عند توزيع الحصص بين الفرقاء الجنوبيين. ولأن هذه التأثيرات تقديريّةٌ أو افتراضيّةٌ، فقد كان حضور حجةالجنوب في هذا الخطاب واهنة، الحضور الذي يعني الغياب، بجانب حجةِ الشمال المُنتصبة بقوةٍ من خلال منطقها الذي لا يقبل الدحض أو حتى مجرد النقاش (اختلال العدالة بين الأكثريّة والأقليّة، واختلال تكافؤ الفرص..إلخ)، فالنقاش، بهذه الصورة، معناه الوقوع في منزلقٍ أخلاقيٍّ وإنسانيٍّ خطير يصعب عليكَ تبريره. في موازاة ذلك، سيتم الرد بسهولةٍ على تبعات المحاصصة الجنوبيّة، رغم واقعيتها، وبافتراضاتٍ مقابلةٍ، كالقول مثلاً أن يتم إجراء انتخاباتٍ لاختيار الممثلين، وبالتالي فلن تكون هُنالك تبعاتٌ سلبيّةٌ أخرى أو خوازيق، على حد تعبير الزميل عايش، يمكن أن تلحق بالجنوبيين جراء تطبيق بنود الوثيقة على أرض الواقع وفقاً لحيثيات هذا الخطاب، وهذا غير صحيح، أو بالأصح غير مُدرك للخوازيق الحقيقية، وهو ما سنحاول لفت الانتباه إليه هنا. فاصلة: الجغرافيا الحاضرة..والمُجرَّمة! لكن، وقبل الشروع في ذلك، يُمكن الإشارة إلى تصورين بارزين جرى تضمينهما جميع الانتقادات التي وُجِّهَت للوثيقةِ، من وجهة النظر المحتلقة حول خطاب الأكثريّة، ولا بد من مناقشتهما حتى يكتمل السياق. التصور الأول، يتمثل في القول بإعطاء الوثيقة أولويّة "للجغرافيا" على حساب أبعادٍ أخرى، أكثر أهميةً ربما، والمقصود بالجغرافيا هُنا "شمال" و"جنوب". وبالتالي، ووفقاً لهذا التصور، فالوثيقة قد اعْتَدَت بفظاظةٍ بالغةٍ على الصورةِ الوطنيةِ الزاهيّةِ، والدولةِ المستقرةِ المتماسكةِ، ومزقتها إلى قطعٍ من الجغرافيا وأشلاءٍ من الهويات المتناثرة. مما يعني أن ما نُطلِق عليه نحن في الجنوب ب"الوضع القائم" أي الوضع الذي بُني كلياً بعد إزاحة"الكيان الجنوبي"؛ كمشروعٍ سياسيٍّ واجتماعي وكهويّةٍ ذات خصوصيّة وتميّز، في حربِ 94 لصالح مشروع وهويّة "الجمهورية العربيّة اليمنية"، وترتب عليه إزاحة وإقصاء مئات الآلاف من الموظفين، هو وضعٌ "وطنيٌّ"، قد تشوبه بعض الاختلالات، على أكثر تقديرٍ، ولكنه في النهايّةِ وضعٌ وطنيٌّ بدرجةٍ ما (وهو وضعٌ انفصاليٌّ في حقيقته، وكما ستبين ذلك من خلال ما نورده) . وبكلمةٍ أخرى، فالحديث عن جنوبٍ وشمالٍ هو حديثٌ عن جغرافيا عبثيةٍ وخطرةٍ، مُجرم إحضارها في التصورات الوطنيةِ من قبل الخطاب النخبوي السائد، وليس هو حديثاً عن مشروعين تم سحق أحدهما بحربٍ ضروسٍ لصالح مشروع الآخر، فيما يحاول الآن المشروع الآخر أن يجمع شتاته بشتى السُبل، وبالتالي ف"الجنوبي" يصبح، بالضرورة، في كل حضوره وتمثلاته مجرماً، ومشكوكٌاً في أمره، بدرجاتٍ تتفاوت هُنا وهُناك، في عمقِ هذا الخطاب. وهي نقطةُ جدلٍ مركزيّةٍ عادةً ما تثير الخلاف والالتباس وسوء الفهم والتقدير في النقاشات الدائرة، بحدةٍ، بين النُخب في الجانبين. ويبدو، ومن خلال هذه التناول، أن النُخب في الشمال أفاقت أخيراً على المشهدِ الحقيقي المهول للواقع اللاوطني، أو الذي كان وطنياً في جزءٍ منه، وهو واقعٌ قاسى منه الجنوب أعتى صنوفِ المعاناة والتدمير النفسي والروحي والمادي. يتعلق التصور الثاني بما تفضلت به السيّدة كرمان بإدانتها للتمييز الجغرافي بين "أبناء اليمن الواحد" باعتباره "خيانةٍ وطنيةٍ"، وتخوفها من أن يتحول الجنوب إلى "عصبويةٍ جهويّةٍ في مواجهة عصبويّة شماليةٍ". ومع احترامي للمبدأ الأخلاقي العام المُقحم في سياق هذه الكلام، إلا أنه غير ملموسٍ في واقع الأمر كممارسةٍ من قِبل المتخندقين به. فلا أدري كيف سيكون أي معنى أو قيمةٍ لعبارة مثل "أبناء اليمن الواحد"؛ بينما لم يلمس المرء من شخصيّةٍ رمزيّةٍ كتوكل يُفترض أن تكون "عالميّةً" في توجها الإنساني، لا جهويّةً قارةً، أدنى موقفٍ حيال مجزرة بحجمِ "مجزرة سناح" البشعة، المهولة لكل من لديه ذرةٍ من قيمٍ أو أخلاقٍ، يرتقي لمكانتها العالمية المُفترضةٍ. لنتخيل أن نفس المجزرة، لا قدّر الله، قد تكررت في صنعاء أو تعز، كيف يمكن أن نجد موقف توكل كرمان حينها؟..الإجابة عن هذه السؤال (المُتخيل) ومن واقعِ مواقفِ سابقةٍ لتوكل ومقارنته بموقفها من مجزرة سناح ستكون عسيرةً، عسيرةً للغاية، والأعسر منها أن لا يستطيع وزير الدفاع (الجنوبي) أن يُحاكم مجموعة من الضباط الذي ارتكبوا المجزرة؛ فأي جهويةٍ أكبر من هذه الجهويّة يا توكل؟!( فهل يجرؤ أحدنا، مثلاً، والمثل غير لائق هُنا، على السماح لخياله بأن يرى صورةً للرئيس (الجنوبي) الحالي وبدون وجودِ دعمٍ دوليٍّ قويٍّ وحاسمٍ يسنده؟!!) اقتراحات اللاحلول: تجشم الأصدقاء والزملاء الذي قاربوا الوثيقة نقداً الكثير من العناء والجهد في سبيل إيجاد الحلول (العادلة) للمشكلة الجنوبيّةٍ. عبّر الصديق عايش عن عدم معارضته في حال حصول الجنوبيين على أكثر من نصف الجهاز الوظيفي للدولة، طالما وقد كان ذلك مستنداً على رافعة "المؤهل والكفاءة". بينما عبّرت توكل عن موقفها المبدئي من معالجة المظالم بما يكفل جبر الضرر وعدم التكرار، مع العلم إن ليس كل الجنوب مظلوم وليس كل الشمال ظالم، منوهة بالقول: "نحن لسنا هنا ضد الجنوب بقدر ما نحن مع قضيتهم العادلة". وبعيداً عن متاهة العبارات (الرنانة) غير المُفضيةِ إلى معالمٍ واضحةٍ ومفيدةٍ، سيلحُ عليكَ، في هذا الصدد، سؤالٌ مركزيٌّ وأنت تحاولُ أن تفتش في أدراج ورفوف العدالة عن حلٍ مُنصفٍ للجنوبيين؛ ما هي، إذن، هذه المُسمّاة ب"القضيّة الجنوبيّة"، وما هي، بالتالي، حيثياتها وأبعادها وتداعياتها؟!..ذلك سؤالٌ غير مطروقٌ، وربما غير مسموح طرحه لأسباب كثيرةٍ، ليبقى الحديث في هذه الجانب عالقاً في تجاويفٍ مفرغةٍ تُحرِّكُها تروس فخامة العموميات، وخلابة الشعارات، والبذخ البلاغي، أي الوقوع، في الأخير، ودون قصدٍ أحياناً، في شرك اللامعني، وضياع السُبل، ومتاهة المقاصد والغايات، بما يُتيح للأضداد أن تستوي، فلا حقٌ حينها ولا باطلٌ ( لا أعتقد أن صاحبة نوبل تظن، من "جِدّها"، بأن "الزلط" التي استطاعت أن تُركِّع الأكاديمية السويدية قادرة، بكل جدارةً، على تركيع هؤلاء "الرِّعاع"، وتجعلهم صاغرين!). ضرر الجنوب: الاستبعاد الإجباري المُخل بقواعد التكافؤ كنّا قد وصفنا ما حدث في الجنوب، واستناداً لمبادئ وأدبيات القانون الدولي، ب"جريمة الإبادة الجماعيّة"، وللآخرين الحق في إطلاق ما يشاءون من أوصافٍ، لكن هناك أمورٌ ليست محلاً لأي خلافٍ. الحرب، التدمير المنهجي للمؤسسات السياسية والاقتصادية التي تُمثِّل شبكة الضمان والأمان الاجتماعي بما فيها مجانية التعليم والصحة والمواصلات، وللقيم والرموز والمشاعر، الإقصاء المنهجي لمئات الآلاف من الموظفين، فضلاً عن تضييق السُبل عليهم لزجهم في قعر حالة يُصطلح عليها في علم النفس ب"وضعية الصدمة"، أي عدم القدرة على التكيّف مع الأوضاع المفروضة قهراً، وإحساس المرء بأنه لا يستطيع التحكم في وضعه، وعدم القدرة على التغلب على الصعوبات والحوادث غير المتوقعة، وعدم احترام المرء لذاته..إلخ. وتداعيات ذلك من خلال التجارب القاسية للصدمة، نفسياً وروحياً ومادياً، سياسياً وثقافياً واجتماعياً وقيمياً (لا أدري كيف سيكون عليه حال الجنوبيين اليوم لو أن منفذاً لدول الجوار، رغم سوءه الفظيع، لم يُفتح!). في العقد الأخير من القرن العشرين ازدهرت، وبقوةٍ، الدراسات التي تُعنى بقضيّة "الاستبعاد الاجتماعي"، ولفتت إلى الأبعاد المستقبليّة العميقة المتولدّة عن قضيّة الاستبعاد كالحرمان واختلال قواعد العدالة والمساواة والإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص، ثم المشاكل الاجتماعية والنفسية المترتبة عن ذلك، كالعزلة والعنف والانتحار والشذوذ. وقد كان عالم الاجتماع البريطاني الشهير انتوني غيدنز في طليعة من تنبهوا بعمقٍ إلى ظاهرة الاستبعاد، وقدّم مساهمات قيّمة، منها تأسيسه لمركز يقوم بتحليل علمي لهذه الظاهرة، ثم قام تلامذته في المركز بإجراء دراساتٍ موسعةٍ عن ظاهرة الاستبعاد، حاولوا من خلالها فهمها، وقياس مداها وأثارها، وعلاقتها بقضايا وظواهر أخرى، من خلال وضع معنى ملموس للعدل ومؤشراً صادقاً للعدالة: فالمُساواة هي اندماج الناس في مجتمعهم على أصعدة: الإنتاج، والاستهلاك، والعمل السياسي، والتفاعل الاجتماعي، واللامساواة هي الاستبعاد أو والإقصاء أو الحرمان من هذه المشاركة. ويُعتبر الأفراد والجماعات مستبعدين اجتماعيا إذا كانوا محرومين من المشاركة سواء أكان يرغبون فعلا في المشاركة أم لا يرغبون. وفي إحدى تلك الدراسات، عرّفت بريان باري، العدالة الاجتماعيّة، في حدّها الأدنى، كنوعٍ من تكافؤ الفرص. ومن خلال تتبعها لمسار ومدى وأثار الاستبعاد، توصّلت إلى القول بأن الاستبعاد يتعارض مع مبدأ الفرص المتكافئة أساساً من ناحيتين على الأقل: أولاهما أن الاستبعاد يؤدي إلى وجود فرصٍ تعليميةٍ ومهنيةٍ غير متكافئةٍ، والثانيّة أن الاستبعاد يُشكّل واقعيّاً إنكاراً للفرص المتكافئة على صعيد المُشاركة السياسيّة. فأبناء الطبقات الحاصلة على فرصٍ فضلى يرتادون أفضل الجامعات والمدارس، وأبناء السياسيين لديهم الطريق سالكة مقارنة بالآخرين ذوي الفرص الزهيدة والمحدودة والتعليم الرديء، وبالتالي فمعيار المنافسة باعتباره السبيل للفصل في قضيّة الكفاءة يصبح لا معنى له (والحديث هُنا عن "القاعدة" لا عن الاستثناءات). وبالتالي فاختلال تكافؤ الفرص منذ البداية لن يجعلها، في أي حالٍ من الأحوال، متكافئة في نهاية المطاف، وهو أمرٌ يتناقض مع مبدأ العدالة، فالفرص ذاتها ينبغي أن تُتاح أمام الجميع في كل مرحلةٍ من المراحل. وفي ظل هذا الاختلال تتراكم التداعيات المُخلة بقواعد العدالة مع مرور مزيدٍ من الوقت، فتنشأ ظاهرة " انفصال الناجحين"، وعنها تنشأ الشبكات، فترتبط كل شبكةٍ بأخرى في المستويات العليا، ولو كانت هنُالك من فرصٍ متاحةٍ، فنتيجة لهذه الارتباطات، سيكون المنتمين والمحيطين بهذه الشبكات أقرب إلى الظفر بها وعن طريق وسائلٍ كثيرةٍ؛ المعرفة ببيئة العمل، الواسطة، تبادل المنافع..إلخ. بينما يبقى المستبعدون، نتيجةً لعوامل كثيرةٍ غير عامل الكفاءة؛ كعدم الإحاطة بالبيئة العمليّة، آلية عمل الشبكات، عدم الحصول على المعلومات الكافية، صعوبة الوصول إلى المرفق بفعل ظروفٍ ماديّةٍ أو غيرها، سداً منيعاً بينهم وبين الفرص. لا أريد هنا استعراض المزيد مما تناولته الدراسة، لأن الحيز لا يسمح، ولكن يمكن العودة إليها، لأهميتها البالغة، وتأتي أهميتها بكونها جمعت بين النظري والعملي، كخبرات وتجارب معايشة، وقد صدرت ترجمتها العربية عن عالم المعرفة الكويتي تحت عنوان "الاستبعاد الاجتماعي.. محاولةٌ للفهم"، عدد أكتوبر، 2007. وبالعودة إلى المشكلة في الجنوب، واعتماداً على معايير ومقاييس اتبعتها الدارسة في تناولها لظاهرة الاستبعاد، مع التأكيد على الفرق الهائل: الدراسة تفحصت موضوع الاستبعاد في دولٍ تشتغل على قضيّة العدالة منذ ما يُقارب قرنين من الزمان، والجنوب تعرّض لتدميرٍ وإقصاءٍ منهجيين، باعتراف بن عمر نفسه، وفي ظل التوتر المتفاقم عُنفاً، فإن العواقب ستكون أكثر قسوةٍ وفظاعةً، فالحرمان المتولد عن الاستبعاد القسري، لم يكن عارضاً، ولن يكون، بل هو متجذرٌ إلى أقصاه، ومتعدد الأبعاد والمكونات والنتائج، حاضراً، وسيكون كذلك ومستقبلاً. لذلك، فحتى لو تم تعويض الجنوبيين بنصيب يصل إلى 100% من الفرص المستقبليّة خلال الفترة المحددة، لن يُعالج المشكلة القائمة منذ ما يُقارب العشرين عاماً، وتداعياته المختلفة، بل سيعود، وبكل تأكيدٍ بكارثةٍ كبيرةٍ على الجنوبٍ، سيصبح هذه الوضع مُشرعاً له، لا وضعاً غير أخلاقي وغير قانوني وغير شرعي كمل هو عليه الآن..سيصبح وضعاً طبيعياً بامتياز، وسيُقاس الفرق بين صنعاءوعدن كالفرق بين صنعاء والحديدة، دون أدنى حرجٍ في ذلك! كانت مدينة عدن بالنسبة إلى اليمن والجزيرة والخليج مثل باريس في الغرب والقاهرة في الشرق، وإلى وقتٍ قريبٍ جداً بحسب شهادة للبردوني، ومهما اختلفنا أو اتفقنا مع الاتجاهات التي غلبت عليها في مراحلها المختلفة (لنتصور لمرةٍ واحدةٍ أن عدن لم تكن موجودة، كيف يمكن أن نكون؟). إزاء ذلك، كان ابن تعز، وإلى تلك الفترة القريبة، يفخر كثيراً بقوله أنه ينتمي إلى "ريف عدن". لكن اليوم الوضع اختلف كثيراً، ستجد من أبناء تعز من لن يُرضيه أن ترقى عدن ك"ريفٍ لتعز"، وفي مجالاتٍ ومستوياتٍ كثيرةٍ، وربما هو محقٌ في ظل وضعها الحالي.