علينا أن نسلم بحقيقة أن الأوضاع الحرجة التي يشهدها اليمن هي نتيجة لتراكمات هائلة من الصراعات المدمرة التي ورثتها نظم وسياسات وواقع سياسي واجتماعي شديد التباين والاختلاف والتعقيد وطبيعي جداً أن تكون أخطاء البدايات محصلة طبيعية لفشل النهايات. فقد ابتلينا بنظم ونخب سياسية أسست لنا تجارب خاطئة ومن هذه الأخطاء الوحدة الفورية في العام 1990م التي لم تضع أي أسس واقعية ومنطقية بالنظر لطبيعة الاختلافات السياسية الحادة القائمة بين الشطرين واختلاف التجربة الاجتماعية المرتبطة سياسياً بكل شطر.
فالشمال ذات التوجيه الرأسمالي رسخ منذ زمن بعيد النشاط التجاري والملكية الخاصة كقاعدة أساسية بطبيعة النظام في حين وجود الدولة يكاد يكون شكلياً فلم تترسخ ثقافة الأنظمة والقوانين واحترامها في الواقع العملي إضافة إلى القوى التقليدية المؤسسة للقبيلة الكابح لفكرة الدولة تكاد تكون هي الوجه الحقيقي للدولة النافذة في حين يختلف الحال تماماً إذا ما نظرنا لطبيعة وجود الدول القوي وسريان الأنظمة والقوانين في الشطر الجنوبي سابقاً فترسخت ثقافة المجتمع على حب واحترام الأنظمة والقوانين فكانت الملكية العامة شأن يؤول إلى الدولة وعلى هذه الخلفية يتضح أن نمط العيش يرتبط عضويا بالدولة وهي المسئولة عن توفير كل الحاجات الأساسية للمجتمع من المأكل والملبس والوظيفة والسكن من خلال نشاط مؤسسي يقوم بالتقييد الصارم في تلبية هذه الخدمات بأساليب ميسرة ومتعارف عليها كحق طبيعي للمواطن تقدمه الدولة مع توفير أهم المطالب الحياتية للسكان كالعلاج المجاني وحق التعليم لأبناء المجتمع وتتحمل الدولة كامل المسئولية على القيام بدورها في تأمين حياة الناس من خلال دعم المواد الأساسية وضبط الأسعار بحيث لا يتأثر المواطن بما يخالف دخله المحدود المعتمد على وظيفته أو المواطن البسيط الذي يعتمد على جهده الذاتي كفئة المزارعين حيث تتكفل الدولة بتقديم المساعدة اللازمة من خلال توفير وسائل الانتاج ودعم الجمعيات كما هو معروف سابقاً سواءً كانت زراعية أو سمكية أو حرفية.
وفي سياق نمط العيش الآمن والمستقر لم ينشأ أي تمايز بين فئات المجتمع في ضل الاقتصاد الوطني الموجه للنظام السياسي القائم على مبدأ الملكية العامة ومهما كانت سلبيات ذلك النظام إلا أن إيجابياته حققت أهم تجربة اجتماعية وتنمية بشرية راسخة البنيان شديدة التماسك بفكرة الدولة وهي الأنظمة والقوانين وحتى الجانب المؤسف له الصراعات السياسية لم يكن عن قاعدة الكسب ونهب الثروات بقدر ما كان يتمحور على فرض كل طرف سياسي لإرادته في تحقيق ما يراه الأفضل والأنسب للمصلحة العامة دون أن يكون أي من الأطراف المتصارعة في وارد حسابه غير إنجاز الأفضل الذي يؤمن به كرأي صحيح مخالف للطرف الآخر حيث تنعدم بالمطلق حرية الرأي المخالف كواحدة من أسوء سلبيات النظم الشمولية كل هذه المميزات التي تشكل في مجملها المصلحة الحقيقية لعامة الناس انتهت بطريقة صادمة للوعي الجمعي بعد إعلان الوحدة الفورية الاندماجية ف عام 1990م فبرز البون الشاسع بين نمطين للمجتمعين المتحدين في الجمهورية اليمنية طرف يملك وهو الشمال وطرف لا يملك وهو الجنوب ولم تتضمن اتفاقيات الوحدة أي شروط تمنع التصرف من الدولة أو الأفراد ورؤوس المال في أراضي وممتلكات الجنوب إلا بعد أن يتم إعادة تأهيل المجتمع الجنوبي وتمكينه من حقه المشروع في التملك كما هو الحال في وحدة الألمانيتين الشرقية والغربية في حين لم يؤسس أي غدر من الانسجام بين الشريكين السياسيين غير حسن النوايا التي آمن بها الطرف الأساسي الذي ضحى بدولة ونظام وقانون وتجربة ليكتشف بعد فوات الأوان كم هي العاطفة مكلفة وكم هو الخسران فادحاً حينما يكون منهج الغدر والغلبة منطق من أحسنت الظن فيه فاشتد الصراع وتحركت آلة الحرب واجتيح الجنوب وسالت دماء غزيرة وعزيزة والخضم وانضم إلى قافلة شهداء اليمن آلاف من الشهداء والجرحى وتجبر المنتصر وقضى على كل شيء جميل في وحدة 22 مايو وتراكمت المآسي والمظالم حتى صار الحال على ما هو عليه اليوم في حافة الهاوية إن لم تحوم في سماء اليمن عقولاً رشيدة تعيد الحق إلى نصابه.
وتصلح من أفسدته السياسية الخاطئة وجنازير الدبابات بعيداً عن منطق الأوغاد من مدعيي الوطنية.. الذين أدموا جسد الوطن بالحروب العبثية التي أنتجت حقائق شطرية مرة تتلفع زوراً وبهتاناً باسم الوحدة وهؤلاء وحدهم من أوجد حالات الفرز والكراهية المتصاعدة بشكل مقلق ومخيف.