تُعدّ زيادة مساحة العرض من أهمّ سمات الدورة الراهنة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب (يستمر حتى 6 شباط - فبراير)، فالدورات السابقة لم تنعم بمثل هذه المساحة التي تسمح باستقبال أكبر عدد من الزوّار، بلا تذمّر من زحمة او صخب كما كان يحصل في السنوات الماضية. لكنّ توسيع مساحة المعرض هذا العام تقاطع مع خلوّ المعرض من طوفان الزائرين واحتشاد العائلات في التظاهرة الثقافية «الشعبية» السنوية. هكذا، انحسر المشهد المتكرّر سنوياً وتلاشت حوافز زيارة المعرض في ظلّ تقديرات تفسّر الأمر بالتخوف من إرهاب بات يباغت الجميع بتفجيرات في أي وقت وفي أي مكان. أضحت زيارة معرض القاهرة رفاهية في هذه المرحلة، وفي مقابل الهدوء غير المتوقع، بقي الكتاب وحده الحاضر الأقوى. فالكتب بطبيعة الحال كثيرة والإصدارات الجديدة متنوعة، والتخفيضات عالية في الأسعار، إضافة إلى كُتاب ومثقفين يتجولون داخل المعرض من دون تذمر من زحام أو صراخ منبعث من أشرطة دعاة المساجد. يجتمع مسؤولو البيع في دور نشر مثل «العين» و «الكتب خان» و «ميريت»، إلى جوار رفوف الكتب المتراصّة في الأماكن المخصصة لكل دار داخل الجناح «الرقم 3». صمتٌ، فأحاديث جانبية متقطعة، وهواءٌ بارد يتسرّب من فتحات الخيام. أمّا أصحاب دور النشر فقد اختفوا تقريباً عن المشهد العام بعدما أفقدهم غياب الجمهور حماستهم المعهودة.
على بُعد أمتار قليلة خارج ذلك الجناح المخصص للناشرين المصريين، تجلس فتاة إلى جوار شاب أشعث الشعر على سطح سيارة نقل صغيرة جُهزت كمسرح صغير متنقل. وجهاهما مزينان ليبدوا على هيئة مهرّجي السيرك، لكنهما جالسان، يهمسان ثم يعاودان التجول بعينين ناعستين بين بضع أعين فضولية أمامهما. ما من جمهور كافٍ ليقف ويشاهد ويتفاعل، وظلت الموسيقى التي تنبعث من «دي جي» مصاحب تُصدر الحركة الوحيدة في عرضهما الصامت.
وفي محاولة لتفسير هذا الجمود، يقول شريف بكر، صاحب «دار العربي للنشر والتوزيع» إنه «في انتظار تزايد الجمهور ولا يمكن لوم الهيئة المصرية العامة للكتاب، المنظمة للحدث، على عزوف الناس عن ارتياد المعرض بكثاقة، كما كان يحدث من قبل. فالظروف كلّها معاكسة». ومن ناحية أخرى، احتفظ جناح البيع الخاص ب «الهيئة المصرية العامة للكتاب» وإصدارات «مكتبة الأسرة» بنسب عالية من الإقبال على الشراء، لانخفاض الأسعار نسبياً، وهو الأمر الذي تميز به أيضاً جناحا «الهيئة العامة لقصور الثقافة» و «المركز القومي للترجمة»، والفضاء المخصص لبائعي الكتب القديمة (سور الأزبكية) والذي يزداد اتساعاً عاماً بعد آخر. وجاء كتاب «الفتنة الكبرى» لطه حسين في صدارة الكتب الأكثر مبيعاً في جناح الهيئة المصرية العامة للكتاب، إضافة إلى سبعة كتب أخرى لعميد الأدب العربي، المُحتفى به هذا العام، وهي: «خواطر»، «صوت باريس»، «كلمات»، «بين بين»، «جنة الحيوان»، «جنة الشوك»، «من أدبنا المعاصر».
وجاء تمثيل الكويت، ضيف الشرف، باهتاً، فيما شغل مراسلو الصحف مقاعد الجمهور في ندوات «الموائد المستديرة» و «كاتب وكتاب». وغاب «شباب الثورة» ورموز حركة «تمرد» التي قادت حملة إنهاء حكم «الإخوان المسلمين» عبر جمع توقيعات نحو عشرين مليون مواطن للمطالبة بعزل الرئيس السابق محمد مرسي. وفي المقابل، حضر «الراحلون»، من طه حسين (شخصية المعرض) إلى أحمد فؤاد نجم الذي حرص منتدى «المقهى الثقافي» (يدير أنشطته الشاعر شعبان يوسف) على تكريمه، وكان من بين النشاطات القليلة التي حظيت بإقبال كبير داخل المعرض. وكرّم المنتدى نفسه الناقد اللبناني الراحل محمد دكروب في ندوة شارك فيها الكاتب المصري حلمي شعراوي والكاتب اللبناني كريم مروة، وأدارها الزميل سيد محمود. ومن النشاطات الرسمية التي صاحبت المعرض كان توقيع بروتوكول تعاون بين وزارتي الثقافة والاتصالات والمعلومات لتوثيق الثقافة المصرية في السينما والعمارة والآثار، عبر محتوى رقمي ل 25 مليون وثيقة تضمها دار الكتب والوثائق القومية المصرية.
وفي سياق آخر، استقبلت القاعة الرئيسة لقاءً مع الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي بعنوان «الهوية والثقافة»، المحور الرئيس للأنشطة الثقافية المصاحبة للمعرض في دورته الحالية. وفيه أكد حجازي أن «الهوية هي روح مصر، وأن الثقافة هي ما يصنعه البسطاء وليس ما يكتبه الشعراء والروائيون». ووصف طغيان الإخوان في الحكم قبل عزل محمد مرسي بأنه «أبشع من طغيان عهد ما قبل ثورة 1952»!
ولعل أنشطة «مخيم الفنون» هي من أبرز نشاطات المعرض هذا العام، على رغم أنّ السياسة حضرت في معظم مناقشاتها، ومن بينها اللقاء مع المخرج السينمائي خالد يوسف الذي أعلن أنّه ينتظر برنامج المشير عبدالفتاح السيسي الانتخابي، الذي سيكون حتماً مترجماً لمبادئ الثورة».
يُمكن القول ختاماً إنّ محور الهوية الذي اتخذه معرض الكتاب عنواناً عاماً متلازماً مع الأحداث الجارية، كان له أثره الواضح في حضور السياسة بقوة ضمن النقاشات وأسئلة جمهور الندوات والمتحدثين أيضاً، وعلى رأسهم وزير الثقافة محمد صابر عرب الذي نقلت صحيفة محلية قوله في إحدى الندوات «لا وقت الآن للتظاهرات والاحتجاجات، علينا أن نتعاون لبناء الدولة المصرية... في أوقات البناء لا يجوز أن نتحدث عن الديموقراطية»!...