يقف الجنوب بقضيته وثورته وحراكه السلمي في مواجهة مع متغيرات عاصفة ومتسارعة وخطيرة, بما فيها تلك التي سوف قد تطال بنيته وسلامة مجتمعه والوئام بين مكوناته, وأيضاً قضيته ومشروعه السياسي, والتي لا يجوز لأحد أن يكرر معها مقولة (لا يهمنا لا يعنينا). وعلى الرغم من أن المؤشرات وبوادر ما تراه اليوم, وما سوف تأتي به الأواتي من الأيام قد كانت باينة منذ فترة ليست قصيرة, إلا أن البعض لم يدركونها, وأن حسابات ما جعلتهم يتجاهلونها, وها هي اليوم تباغت الجميع .. وهم في حالة من الحيرة والإرباك, وبعد أن فقدوا فرصاً وظروف لن تتكرر كان بالإمكان استغلالها لترتيب الوضع وتعزيز عوامل القوة, والاستعداد لما هو آتِ. ليس الوقت الراهن هو الملائم للخوض في التقييم وتبادل الاتهامات وإطلاق الاحكام وخسارة ما تبقى من ممكنات للقيام بما هو ممكن وضروري, وفي أساسها إطلاق مبادرات نوعية وتحركات حقيقية ومنظمة وجماعية لتدارك الأمور وإصلاح ما يمكن إصلاحه, وتغيير ما لم يعد نافعاً ومجدياً اليوم وغداً, وكل ما أضر وأساء وأضعف, وهناك ما يجب تبنيه والعمل به دون إبطاء. لا أحد يدعو للاستسلام والرضوخ للأمر الواقع والإملاءات , في ذات الوقت فالمسؤولية والحكمة تحتمان أيضاً إجراء مراجعة للكثير من الشعارات والتصورات وبعض جوانب الخطاب السياسي والإعلامي, والقبول بوجود مساحة من الاختلاف بين الرؤى والمشاريع والتكتيكات سواءً بين القوى المعبرة عن القضية الجنوبية أو بينها وبين جماعات جنوبية أخرى لها رؤاها ومصالحها, وما يحتم على الجميع الإقرار بالتعايش وقبول الآخر واعتماد أسس يحتكم لها الجميع وأهمها إرادة الشعب. توجد ضرورة وضرورة قصوى للبحث عن مسار ثالث يجنب الوقوع في أي من هاتين النتيجتين الكارثتين, وعند هذه النقطة يجد أن تغلق تماماً سوف المزايدات والإضعاف المتبادل, وشعارات تسويق الزعامات, ونزعات الإقصاء والأداء البدائي-العشوائي والخطاب المتخشب, واختزال قضية الجنوب وتجيير نضاله وتضحيات شعبه, ومعها أيضاً النزعات الانهزامية والمواقف السلبية, أو السعي إلى حصة في الغنائم والصفقات وعلى حساب القضية العامة. المطلوب إنتاج وامتلاك رؤيا سياسية ناضجة وشاملة, ومرجعيات جماعية, وأعمال مؤسسية متناغمة ومتكاملة تغطي المجالات الهامة وتحديداً النضال الجماهيري الميداني السلمي ومجال الأداء السياسي وأخيراً الاجتماعي والمجتمعي, وأن تعاد القضية لمالكها الوحيد-الشرعي الشعب دون مصادر أو اختزال, واحترام إرادته وخياره تستمد قوتها من مبادئ القانون الدولي. التطورات القادمة أن تُركت تفعل فعلها كما يريد لها البعض لن تصيب الحراك الجنوبي السلمي, وإنما مجتمع الجنوب بكل تنوعه وشرائحه, وتالياً سوف ترتد على الوضع في اليمن كلها, حتى وأن تغيرت الشعارات والعناوين. أن الأعمال والنزعات الاحتلالية والإقصائية بما تتطلبه من حروب وتدمير وقمع ومصادرة, والتي أوصلت البلاد إلى مشارف الفشل والانهيار "العام والشامل", لن تكون هي أدوات ووسائل المعالجة والإنقاذ والإصلاح, وعليه فأن اعتماد سياسة "كسر عظم" مع الحراك الجنوبي السلمي وجماهير الجنوب عامة والقضية التي تحركها, اعتماداً على القمع والمنع والخداع والمكر, والاستنساخ والتجزئة لن يكون سوى مواصلة لنهج حرب 1994م والذي أثبتت الحياة فشله, وبرهنت على أن النجاح فيها لن يخدم السلطة والعملية السياسية وقواها وأطرافه والتنمية والاستقرار المنشودان, وإنما ستصب في صالح قوى ومشاريع التطرف والإرهاب والعنف. وفي هذا المجال من الأهمية بمكان إعادة التمعن بما آلت إليه الاوضاع بعد دورة خليجي 20 في عدن, والتي كانت في الواقع عملية عسكرية وأمنية وسياسية بامتياز ورياضية تالياً, صحيح لقد أدت إلى الحاق الضرر بالحراك السلمي في الجنوب, ولكنها لن تحقق الأهداف التي توختها الأطراف الخارجية التي وقفت وراء الحدث, وهي دعم السلطة وتمكينها من تحقيق نصر معنوي, بل صبت في خدمة (جماعات أنصار الشريعة) التي تمكنت من استغلال الأجواء التي هيأت لها لإسقاط العديد من المدن والمناطق, وما ترتب عليه من حروب وتدمير وتهجير لازالت آثاره المأساوية قائمة في دلتا أبين وغيرها. لذلك من الواجب أن نتسائل لمصلحة من تتبع اليوم إجراءات وسياسات قد تؤدي ضمن نتائج أخرى إلى دفع كتلة جماهيرية هائلة وثائرة انتهجت خيار النضال السلمي إلى تبني خيارات أخرى, أو تسليمها لقوى ومشاريع ستؤدي بنتيجة إلى تدمير الجنوب إلحاق الضرر بقضيته, ومعها العملية السياسية بأهدافها وما أرتبط بها ونجم عنها, وفي الشمال والجنوب على حدٍ سواء. من واجب جماهير الحراك السلمي وأن تتحرك وتدفع وتضغط لتحريك المياه الراكدة, والإمساك بالحلقات الرئيسية ودون انتظار لما يأتي من الخارج أو الركون عليه, فالقيادات والرموز الوطنية المقيمة في الخارج (مع تقديري العالي لهم جميعاً) لهم ظروفهم الخاصة التي يجب احترامها وتقديرها, ولو كان باستطاعتهم القيام بأكثر مما عملوه لفعلوا ذلك من زمان. ومن المفيد أن ندرك أن تحقيق الأهداف الوطنية العامة التي من اجلها أطلق الشعب ثورته السلمية وقدم التضحيات الجسيمة لن يكتمل إلا عبر عملية سياسية, وهذه الأخيرة لها شروطها وظروفها, وبما فيها ميزان القوى على الأرض, وإرادات ومصالح كل الأطراف الفاعلة فيها والمؤثرة في نتائجها. أن مصلحة الجنوب وقضيته السياسية تتطلبان أكثر من أي وقت مضى الثبات في التمسك بخيار النضال السلمي القابل للتطوير والتنوع والتكيف مع المستجدات, وأبعاد الحراك عن أي شبهات بأعمال عنف قد يضطر لها المواطنين هنا أو هناك في إطار حق الدفاع عن النفس, واستنهاض قيم ومُثل عملية التصالح والتسامح والتعايش بإجراءات نوعية وشاملة, وتتطلب أيضاً تشجيع وإطلاق الحوارات الرأسية والأفقية بين مختلف القوى والمكونات في إطار المجتمع وعلى كل مستوى, وتبني مبادرات سياسية ومجتمعية من شأنها أن تشكل شبكة أمان تحمي المجتمع من أي انقسامات وتصدعات حادة قد تحدث في إطار المجتمع, وبين أصحاب الخيارات والتوجهات المتعارضة إزاء الاستحقاقات السياسية القادمة التي قد تتطور -لا سمح الله- إلى أعمال عنف, يكون الجنوب ضحيتها والخاسر الأكبر فيها, ويمكن للقوى والمنظمات المدنية أن تلعب دوراً رائداً وهاماً في هذه العملية.