كان الفنان التشكيلي العربي يفضل أن يكون ضحية لمروجي ومسوقي أعماله الفنية من أصحاب القاعات خشيةً أن يُتهم بالمتاجرة بتلك الأعمال، التي هي خلاصة موهبته وخياله وكدحه اليومي. ولا أبالغ إذا ما قلت إن اسم الفنان وهو منتج تلك الأعمال كان يحتل المرتبة الأخيرة في قائمة المستفيدين من عمليات البيع والشراء التي كانت تتم وفق آلية مزاجية، لا ترقى إلى المستوى الذي يؤهلها لتأسيس قاعدة لقيام سوق فنية، ذات معايير تجارية واضحة. لم تكن أسعار الأعمال الفنية ثابتة، ولم يكن خطها البياني في تصاعد مستمر. لم يكن هناك معيار واضح يتم من خلاله النظر إلى قيمة العمل الفني المادية. كانت هناك وجهات نظر شخصية لا تستند إلى قاعدة نقدية راسخة في تقييم العمل الفني، تاريخياً وفنياً، ومن ثم الذهاب به إلى مستوى التقييم التجاري باعتباره بضاعة يتم تداولها في سوق هي الأخرى يتحكم فيها العرض والطلب. ربما لأن الفنان العربي لم يشأ الدخول في معمعة الصفقات والمفاوضات التجارية فقد آثر أن يقف بعيداً ويلقي بكل ما لديه بين أيدي أصحاب القاعات الذين كان همهم الأساس ينصب على تحقيق أعلى الأرباح الشخصية على حساب ما يجنيه فنان، تخلى بإرادته عن حقوقه المادية.
إلا في ما ندر فإن العالم العربي لم يشهد ظهور فنان كان حريصاً على أن يفرض أسعاراً لنتاجه الفني بنفسه. كان التعفف صدى لطريقة نظر الفنان إلى ما يقوم به من نشاط غطى وهم الرفعة والقداسة الروحية فيه على ما يمكن أن يعنيه العمل الإنتاجي على المستوى التجاري. لم يكن الفنان قادراً على تثمين جهده من جهة كونه محاولة للعيش، في حياة صارت تكاليفها تضيّق الخناق عليه. لذلك مات الكثير من فنانينا الكبار وهم مستورو الحال إذا لم يكونوا فقراء.
أتذكر أن الرسام العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد كان قد عبر لي عن استيائه في بيروت حين طلبت منه مديرة القاعة التي كان تقيم له معرضاً عام 1996 أن يضاعف أسعار لوحاته. قال لي يومها «لو أني كنت أعرف أنني سأتاجر بأعمالي في بيروت ما كنت أتيت» يومها شعرت برفعته وعظمة انتمائه للفن، ولكنني اليوم أشعر كم كنا ساذجين معاً. كانت صاحبة القاعة تعبر عن حقها الذي لم نفهمه بسبب مفارقتنا للواقع. فاللوحة ما أن تغادر محترف الفنان لتوضع على جدار من أجل المشاهدة والاقتناء تكتسب معاني أخرى، غير تلك المعاني التي كانت رهين خياراتها يوم كانت محاولة للخلق والابتكار والتعبير. ما لم يكن الفنانون العرب يفهمونه كان مفهوماً بالنسبة لأصحاب القاعات وتجار الفن، ولبعض المقتنين أيضاً.
كانت التجارة أكثر تعقيداً من أن يقوى الفنان العربي على استيعاب معادلاتها. ولكن هل تم تصحيح الوضع بعد أن صارت مدن عربية ثلاث (دبي، بيروت، أبو طبي) تشهد أسواقاً سنوية للفن وبعد أن غزتنا المزادات العالمية (سوثبي وكرستيز) بعروضها؟ لا شيء مما نأمل به قد حدث إلا في حدود ضيقة.
وبسبب طبيعتها التجارية، وهو أمر لا يمكن الاعتراض عليه، فقد اختصت تلك الأسواق في استقبال القاعات التي تستطيع الإيفاء بما يطلب منها مالياً، غير أن الأهم من ذلك أن مديري تلك الأسواق وهم ليسوا عرباً (أمر لا يزال يحيرني) قد نجحوا في فرض ذائقتهم على عمليات التسويق، وهو ما استجاب له أصحاب القاعات العربية وهي التي كانت دائماً أقل عدداً من القاعات الأجنبية، من أجل أن لا يخسروا فرصتهم في المنافسة التجارية.
تعترف أنتونيا كارفر، وهي مديرة «آرت دبي» للسنة الرابعة على التوالي بأن السوق التي تشرف عليها ذات طابع تجاري، غير أنها لا تخفي أن هناك مبالغ هائلة تنفقها المؤسسات الداعمة على مشاريع تجريبية تقع على هامش السوق، وهو ما يعني صنع مزاج فني، لن تكون القاعات الفنية العربية المشاركة قادرة على التماهي معه. سيكون يسيراً أن يقال لأصحاب تلك القاعات «إن كل ما تعرضونه من فن صار قديماً» ما لم يستوعبه الكثيرون أن تلك الأسواق لم تكن موجهة للسكان المحليين. من وجهة نظر كارفر وهي التي تعترف بجهلها الكامل بالفن العربي فإن الرهان كله ينبغي أن ينصب على الأجيال القادمة التي لن تكون مهووسة بشيء اسمه الفن العربي.
ألا يعني كل هذا أننا صرنا ننفق على أسواق تعادي فننا، وتضع نفسها في خدمة كل ما من شأنه أن يحذف تاريخنا الفني من ذاكرة الأجيال المقبلة؟ أعتقد أن «آرت دبي» يقوم بتلك المهمة بطريقة استعراضية جذابة.
لن يعترف أصحاب القاعات العربية بهزيمتهم وهم الذين يخرجون كل سنة من السوق خاسرين. لديهم شعور وهمي بالفخر أنهم شاركوا في «آرت دبي». ولكن الحقيقة تقول إن مشاركتهم تلك لم تكن إلا جسراً تعبر عليه قاعات العرض الأجنبية إلى مقتن جهزته إدارة السوق في إطار صفقات، قد هيأت سلفاً.
كان الفنان العربي كما أسلفت جاهلاً بقوانين السوق التجارية، ولكن تبين لي في ما بعد أن أصحاب القاعات الفنية لا يقلون جهلاً عنه. فلو أنهم أدركوا أن مشاركتهم في تلك الأسواق الفنية لم تكن إلا فخاً لنأوا بأنفسهم عن أن يكونوا ستاراً لما كان يُجرى من صفقات. لربما كانت المشاركة العربية في «آرت دبي» صك براءة كان يمكن تفاديه.