بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقَدره تلقينا نباء وفاة العالم الكبير أ0د/ عبدالله علي القرشي أستاذ الرياضيات ونائب رئيس جامعة عدن وأحد أبرز مؤسسي الجامعة في مطلع السبعينات من القرن الماضي بألمٍ و حزنٍ وحسرةٍ 0 بدأ أولى خطواته المهنية كمعيد لتخصص مادة الرياضيات في مدارس مدينة عدن ، كيف لا ؟ وهو الحاصل على شهادة البكالوريوس في الرياضيات من جامعة لندن العريقة عام 1960م 0
وحين بدء تأسيس الجامعة بكلية التربية عدن قُبل محاضراً بالكلية لأنه قد حصل في عام 1971م على شهادة الماجستير من جامعة إكسترا البريطانية 0 من العام 1973— 1977م ترأس قسم الرياضيات بكلية التربية الى جانب انه كان نائباً لعميد الكلية للشؤون الأكاديمية بالإضافة الى تدريسه عدد من المساقات التخصصية بعلوم الرياضيات 0
في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات عاد الى بريطانيا لإنهاء دراسة الدكتوراه وحقق نتيجة متميزة وحصل على الدكتوراه من جامعة لندن في العام 1983م 0 في العام 1984م عُين بقرار جمهوري نائباً لرئيس جامعة عدن للشؤون الاكاديمية وأستمر بهذا المنصب الى العام 1990م. وفي العام 1991م ألتحق بالمعهد الدولي للتخطيط التربوي بباريس التابع لليونسكو وحصل على شهادة الدبلوم في التربية 0
هذه سيرة مكثفة لاحد أبرز علماء الرياضيات في جامعة عدن واليمن عموماً وهي سيرة تختزل عطاء عالمنا الجليل القرشي رحمة الله عليه في مجال إختصاصه 0 وحينما صدر قرار تعيينه نائباً لرئيس الجامعة أُستقبل بحرارة وفرحة من أعضاء المكتب التنفيذي لمجلس جامعة عدن آنذاك وكان أعضاء المكتب مكون من : ● أ. د. سالم عمر بكير رئيس الجامعة (رحمة الله عليه) ● أ0د/محمد عبدالمجيد محمد النائب الإداري والمالي (متعه الله بالصحة وطول العمر ) ● الدكتور/ عمر محمد على – النائب الثقافي (متعه الله بالصحة وطول العمر) ● عبدالعزيزصالح بن حبتور -سكرتير أول منظمة الحزب الاشتراكي اليمني بالجامعة ( أعاننا الله على مواصلة المشوار ) 0 ● عبدالله محسن طالب باسرده رئيس مجلس طلاب الجامعه ( متعه الله بالصحة وطول العمر) ● الأستاذ/ عبدُه فارع نعمان – رئيس نقابة المهن التعليمية باليمن الجنوبي آنذاك (رحمة الله عليه) ● الأستاذ / حسين سالم العطاس مدير عام القبول والتسجيل بالجامعة (رحمة الله عليه).
أتذكر أن الجميع كان مرحباً مسروراً بقدوم هذه الشخصية الأكاديمية ذائعة الصيت لعضوية المكتب التنفيذي باعتباره نائب لرئيس الجامعة ومن هذه اللحظات عملنا معاً خدمة للجامعة وطلابها وبحسب لوائح وأنظمة الجامعة وقت ذاك0 أتسمت شخصية البروفيسور القرشي ومن خلال مزاملتي له بالهدوء الشديد ، والحصافة في التعبير والاحترام الشديد للوقت وهذا بطبيعة الحال انعكاس لشخصية عالم في أهم اختصاص بالعلوم وهي مادة الرياضيات 0
كيف نتصور سلوك هذا العالم الجليل وما خلفه من إرث تربوي / علمي لدى أجيال متصلة ومتعاقبة من شباب وشابات عدن و الممتدة من عقد الستينات وحتى قُبيل عام على وفاته تقريباً وهو يزاول مهنة التدريس لمساق معقد ولكنه شيق تحكمه معادلات رياضية أساسها المنطق و العقلانية في التسلسل للوصول الى النتيجة والإجابة النهائية ، هذا الإنسان الوقور ترك بصمة عميقة لدى كل هؤلاء الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد علماء واختصاصيين ومهنيين في العلوم بأنواعه، هؤلاء هم ثروته و ميراثه وامتداده ولهذا يقولون إن العلماء هم ورثة الأنبياء من باب التواصل الإنساني في حقل التنوير العلمي.
العلماء (لايتكررون) ولا يولدون (بالجملة) والقادة الأفذاذ الذين سطروا أروع الملاحم لشعوبهم كانوا يحملون السيف باليد اليمنى وفكر وكُتب علماء زمانهم كمرشد لهم في إنارة طريق الفتوحات والانتصارات التي خلدت بطولاتهم. لنستمد العبرة من إرث التاريخ : ● أمتاز عصر الخلافة في الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي بتشجيع العلماء والمفكرين وسميت المرحلة آنذاك بالعصر الذهبي للإسلام ولمع فيه نخبة من العلماء كالفيلسوف / الكِندِي، وأبن سيناء، وإخوان الصفاء ، وأبن طفيل، وفيلسوف العرب ابن رشد ، مما حفز الخليفة العباسي/ المأمون بأن يقنع عالم الرياضيات / الخوارزمي أبو جعفر بان يقود ويدير بيت الحكمة في العاصمة بغداد لفطنته بدور العلم في الحياة وإزدهارها. ● الإسكندر الأكبر "المقدوني" كان يقاتل في أصقاع الأرض ليضيف مزيدٍ من المستعمرات لسلطانه وحكمه وكان يتحرك ويقاتل وتعاليم الفيلسوف اليوناني الكبير / أرسطو مرشده وهاديه. ● نابليون بونابرت كان يقود معاركه الطاحنة في سهوب وجبال أوروبا وكتب الفلاسفة الفرنسيين / لاي بنتز وجان جاك روسو موضوعة ضمن أمتعته الشخصية، هكذا كانوا القادة الحقيقيين بالعالم.
البروفيسور / القرشي عالم استثنائي : أستاذنا الفقيد عبدالله علي القرشي عالم استثنائي في اختصاصه ولا زالت أروقة الجامعات العالمية واليمنية تسمع صدى محاضراته، ويستمع طلابه لنغم سيمفونياته العجيبة في نظريات التفاضل والتكامل ونظرية فيثاغورس والنظرية النسبية لأين شتاين ولا زال طلابه وعشاق علمه يرددون بعده تلاوة أبجديات (الرقم والصفر العربي) الذي كان هدية العرب للعالم حينما كان العرب يبجلون العلم والعلماء الذين قال الله عنهم في محكم كتابه الكريم: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿18﴾ آل عمران: 18 وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية: الثناء على أهل العلم الشاهدين بها وتعدلهم)، وقال الإمام القرطبي - رحمه الله -: (في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه، واسم ملائكته كما قرن العلماء) .
ومن الأدلة أيضا على المنزلة السامية للعلماء، أنهم مميزون بعلمهم عن غيرهم من عامة البشر، قال الله تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿9﴾ الزمر: 9 قال الطبري - رحمه الله - : (يرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم، بفضل علمهم درجات إذ علموا بما أمروا)، كذلك أوجب - سبحانه وتعالى - الرجوع إليهم وسؤالهم عما فيه إشكال بين الناس، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۖ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿7﴾ الأنبياء: 7 كل هذه الأدلة موجهة لأولي الأمر ولأصحاب القرار في كل زمان ومكان بالرجوع للعلماء والمفكرين كلٍ في مجال اختصاصه ، ولا ضير أن يكون لصاحب القرار "جلسائه وندمائه و محبيه" للجلسات واللقاءات الخاصة ، لكن فيما يتصل بشأن حقوق ومصالح الأمة والشعب فلا يجوز تجاهل كلام الله العليم الذي انزله في كتابه الكريم ، وإرث القادة العظماء الذين سطروا ملاحم في التاريخ الإنساني .
رحم الله أستاذنا الكبير/ عبدالله علي القرشي واسكنه فسيح جناته والهم أهله وذويه وطلابه ومحبيه الصبر والسلوان وأنا لله وأنا إليه راجعون.
أتمنى من الزملاء في لجنة التأبين أن يجدوا وقت كافي لجمع ما كُتب عن الفقيد وبعض أعماله وتتم بعدها طباعته تكريماً ووفاءً وتخليداً لذكراه 0 والله من وراء القصد،،، أ. د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور رئيس جامعة عدن محافظ عدن السابق