اشتركَ الإعلام المصريّ والجزائري الرسمي والخاص، وكذلك النُّخَب السياسية والثقافية في حشد المشاعر وتجييشها خلف مباريات كرة القدم، ووُصِفت حالة الهيجان العاطفي والهستيريا الشعبية التي أصابت الشعبين المصري والجزائري برمَّتهما في المباراة الأولى والثانية بأنَّها الوحدة الوطنية!!!! وجُعِلَ الصراخُ والدَّوْسُ على العلم الجزائريّ في القاهرة، والعدوان على الممتلكات المصرية في الجزائر، وعلى المصريين في السودان، وتبادل أقذع الشتائم بين الشعبين، دليلاَ يُثبتُ قوَّة الولاء للوطن، وتعبيراً حيّاً عن الوحدة الوطنية أيضاً!!! وكان من أسوأَ ما أفرزَتْه المعركةُ بين الشعبين (الشقيقين) ضلوعُ أهل الثقافة في حفلة السباب والشتم هذه، بحيث استحال على صوت العقل الخافت أن يصل إلى الآذان التي أصمَّها أزيزُ الغضبِ المهزوم أو صخَبُ الفرحِ الفائز. وكان لما كتبه الأديب الفائز بجائزة البوكر يوسف زيدان صدىً عربيّ استنكر أن يشارك مثله في حفل الضغينة وإثارة الكراهية التي تسلَّق عليها النظامان لشَغْلِ الرأي العام عن همومٍ أخرى حقيقيَّةٍ ومصيرية. كما كان من أسوأ حصاد المعركة تحويل الأنظار عن مجريات الأحداث وأسبابها الموضوعية، إلى السؤال الذي أطلقه أحد مشاهير المذيعين المصريين "لماذا يكرهوننا؟" والذي أخذ يتناسل في الفضائيات المصرية، لتفنيد الأسباب التي يكره فيها العرب إخوتهم المصريين!!! بل إنَّ الأمر مضى إلى أبعد، حيث سُبَّ العرب والعروبة، وتنصَّل المتحدثون من الأمة العربية ومن الشقيقة الكبرى والصغرى. وبذا انتقلت المعركة إلى مستوىً جديد وفريد بزعمِ تعارض الوحدة الوطنية مع الوحدة العربية!! لم يكن يلزم سوى هذه اللعبة ليظهَرَ ما وراءها وما تحتها من مهترئ القيم، وحَقود المشاعر. فلقد جُعِلت كرةُ القدم سبباً لأن يلتفَّ الشعب فعلاً حول أفكارٍ مزيفةٍ عن الوحدة الوطنية والعروبة. وبدا أنَّ الشوفينية والتعالي على سائر الشعوب ومنها الجزائري، ليس سوى منزعٍ وطنيٍ يؤكِّدُ الانتماءَ، ويحقِّقُ الفوز حتى لو كان مفقوداً. هذه الحالة لم تكن فريدةً في العرب، فلطالما نُسِبَت الوطنية ووحدتُها إلى أحداثٍ خارجةٍ عن معانيها، كمثل التصويت لمغنية خيَّبتِ الآمالَ فيما آل إليه مستواها في الأداء الفني، وكمثل التصويت لهذا أو هذه في مباريات الشعر والغناء. وكمثل التعبير بالفرح العنيف أو الغضب العنيف عند ظهور نتائج ما. بينما أنَّ الوحدة الوطنية لا تكون إلا بمحو التمييز بين الناس على اختلاف الجنس والدين والعرق واللون والأصول، ومعاملة الجميع على قدر كامل من المساواة، يُفرز من ثمَّة تحابباً وتضامناً ويُلغي أيَّ شعور بالتفوُّقِ أو بالأحقيَّة. ومن أغرب الأمور أنَّ حديث الوحدة الوطنية لا يكون في الدول القوية المتماسكة، بل في تلك التي يضرب فيها سوس الفساد، ويتآكلها التخلف، ويُمعن فيها الاستبدادُ قرنه الفاتك، وتستشري فيها الأميَّاتُ بأنواعها.
span style=\"color: #333399\"*نقلا عن "الغد" الأردنية