نحن شهود على مرحلة تفكك فيها الجيوش النظامية لصالح نقائضها وعلى حساب الدولة، وبالتالي إما أن يعاد تعريف وظيفة الجيش في ضوء هذه الحقيقة، أو أن يندثر الجيش وتتفرق آلياته بين الجماعات المتنازعة، وتحل محله المليشيات المتطرفة والحزبية والطائفية..حينها لن يكن بوسع الجيش حماية الدولة وسيكون الوقت قد مضى على إمكانية تدارك سقوطها إلى جولات صراع ذي بعد عقدي أو أيديولوجي بقرارات رئاسية جريئة.. وستكون حمايتها مسؤولية تفوق قدرة الجيش على مقاومة الاستنزاف وتفوق قدرة الرئيس على اتخاذ قرار يعكس إرادته لا إرادة مراكز القوى. يبدو أن الرئيس هادي رغم بطئه الشديد قد تحرك أخيرا؛ فالقرارات العسكرية التي أصدرها أخيرا -رغم كل المآخذ عليها- تفصح عن توجه رئاسي لتأسيس مركز قوة خاص به لتجاوز هيمنة مراكز النفوذ المتصارعة، وقد ينجح في حال استقل بالقرار وسانده من لايزالون بمنأى عن أي استقطاب. إذ أن الألوية التي قضمها الرئيس ووضعها في الكيان العسكري الجديد الذي لا اعرف تسميته، ووفقا لمطلعين على تكوينات الفرقة والحرس يقولون إنها ألوية ضاربة وبالغة الأهمية. لكن هناك من يتخوف من تفكيك قوات النخبة لصالح أطراف بعينها أو تحت ضغطها، إلا أن ثمة من يقول إن الرئيس في طريق التمتع الكامل بصلاحيات القائد الأعلى. وأن القرارات أرادت ضم عدد 12 لواء عسكريا، لتكون تحت تصرف الرئيس هادي في خطوة أولى لإخراجه من تحت وصاية الأطراف المتصارعة ومن تحت حمايتها .. قرارات الرئيس هادي الأخيرة جريئة وبالغة الخطورة في الوقت نفسه، غير أن كل القرارات المتخذة حتى اللحظة لم تنه حالة انقسام الجيش، عوضا عن أنها تفكك جيشا وطنيا حديثا يمثل صمام أمان البلد بمصوغات غير منطقية ولا حتى واقعية وهذا هو أحد أهم المآخذ عليها . ففي حال لم تجر عملية إعادة توحيد الجيش وإنهاء الانشقاق بصورة علمية صحيحة تستهدف فعلا تفكيك مراكز النفوذ العسكرية التي حولت وحدات من الجيش إلى مجرد "إقطاعيات عسكرية" مملوكة لقيادات عسكرية متمردة وتنفذ أجندة شخصية خاصة بهم مضادة تماما للمصلحة الوطنية، في هذه الحال، ستتحول هذه القرارات إلى ما يشبه المسمار الأخير في نعش الجيش، حيث يتعين على الرئيس هادي أن يضع في اعتباره احتمال أن يؤدي فشل إدارة هذه المسألة إلى تفكيك الجيش إلى وحدات أصغر وميليشيات بلا إطار جامع. إنها سمة الخطوات الكبرى والمهمة، حيث لا يفصل بين النجاح العظيم والفشل الذريع سوى شعرة. والشعرة التي تفصل بين نجاح عملية إنهاء الانقسام الموجود حاليا في الجيش وفشلها تتمثل في إدارة هذه العملية بوازع وطني متعال على الأجندات الشخصية ومتحرر من ضغوطات مراكز النفوذ.ويرفض السماح لأي مركز نفوذ عسكري أو قبلي التدخل في هذه المهمة على حساب الجيش. القرارات الأخيرة هي أخطر القرارات التي اتخذت حتى الآن، وليس هناك ما هو أخطر منها سوى تأثرها الفاضح بضغوطات بعض الأطراف العسكرية والقبلية المتناهية تحت يافطة " الثورة ". أيضا عدم نزاهتها وشفافيتها. وكأن الهيكلة هي تشتيت الجيش الوطني وتفكيكه وإلحاقه بالفرقة الأولى أو بقائد "الجيش الحر" كما يحلو للواء علي محسن نعت نفسه في سياق إعادة إنتاج الذات المهترئة والتموضع مجددا. فبيان علي محسن الذي أعلن فيه تأييده لقرارات الرئيس هادي تضمن إهانة مبطنة للقرارات وللرئيس هادي؛ فصاحبه دستوريا مجرد موظف لدى هادي، وكان الموقف الوحيد المنتظر منه هو التنفيذ دون الحاجة إلى إصدار بيان يؤيد فيه قرارات قائده الأعلى. فهو ليس طرفا مستقلا عن سلطاته ولا عن "الدولة اليمنية" كما هو مفترض. إلا إذا كان علي محسن يعتبر نفسه جزءا من مجموعة الدول ال10، فهذا موضوع آخر. في تقديري أن الرئيس هادي كان في غنى تام عن بيان التأييد الذي أصدره علي محسن. البيان تسبب في تخصيب الشكوك حتى إن الأمر وصل إلى درجة الحديث عن مؤامرة اشترك في تدبيرها هادي مع علي محسن الذي أذيع بيانه بعد إعلان القرارات بزمن بسيط جدا. لا تحتاج القرارات الجمهورية لبيانات موافقة وتأييد، لأن معنى إصدارها امتلاك حق الموافقة والرفض والتقليل من شأن صاحب القرار أو أنها جاءت بموافقته والاتفاق معه .وكأن كل قرار ما لم يجد تأييدا من محسن وحميد يصير غير معمول به! ليست المرة الأولى التي يصدر فيها علي محسن بيانا من هذا النوع ومن الطبيعي أن يكون قد استفز الكثيرين، لأنه في الوضع الطبيعي لأي بلد ليس مطلوبا من قائد عسكري أن يعلن قبوله أو رفضه وإنما يمتثل لذلك تلقائيا، والملاحظ أن الترويج لبيان علي محسن صار أهم مما جاء بالبيان ذاته .لكن من روجوا للبيان واحتفوا به هم أنفسهم يوما سيدافعون عن رفض محسن لقرار آخر بالتأكيد. البلد لا يحتمل المزيد من المكابرات وكان على اللواء علي محسن أن يؤكد انصياعه لقرارات الرئيس بطريقة محتشمة وليس بالتنطع، لأنه بهذا الشكل يفقد الرجل هيبته ويضعف موقفه وقراره وأعتقد أنه كان على الرئيس هادي الرد على هكذا تنطع وإيقاف مصدره عند حده. في المقابل ربما بالغ البعض في الاحتفاء المجاني بقرارات الرئيس هادي الأخيرة إلى درجة الإسفاف. فبعد صدور القرارات ذهب كثيرون لمراس التنجيم على طريقة عرافات مبتدئات بزوال الفرقة الأولى مدرع وبأسلوب لا ينم عن أية حصافة سياسية أو لنقل قليل من ذكاء سياسي. أتفهم حاجة بعض الكتاب المحسوبين على المؤتمر الشعبي العام ، ليلة صدور القرارات ، في مواقع التواصل الاجتماعي ل"الابتهاج " كحديقة خلفية للتخفف من وقع الصدمة ولتجاوز حالة الإرباك التي وقع فيها عدد منهم نتيجة عدم صدور موقف رسمي واضح عن حزب المؤتمر بخصوص القرارات.لكن ما لم أفهمه بحق هو حاجة البعض لتسويق تحليلات ناقصة وسطحية لقرارات هادي الأخيرة؛ وتحاول (تعسفا) تجييرها لصالح المؤتمر، وإصرار أصحابها على اعتبارها مقدمة لتفكيك الفرقة الأولى مدرع رغم صدور بيان تأييد يحمل توقيع اللواء علي محسن وأذيع في ذات النشرة التي أذيعت فيها القرارات.وكأن "محسن" سفير سيئ لإحدى الدول العشر الراعية للتسوية تناول كميات غير مقننة من النبيذ في سهرة ليلية وخرج يعلن تأييد بلاده لقرارات الرئيس التوافقي..السفير الفرنسي مثلا! إمعانا في الإيضاح؛ لم يكن هناك مبرر للاحتفاء، وقد تعمد علي محسن تأكيد حقيقة أن القرارات لم تطبخ في مطابخ رئاسية خالصة، أو بعيدا عن تأثيره، وأيضا توجيه إهانة بالغة لرئيس الجمهورية من خلال البيان الذي بدا فيه "صاحب قرار" وليس قائدا عسكريا تابعا للقيادة العليا للقوات المسلحة يمكن عزله في أية لحظة، أو بالأصح "متمرد يجب عزله". حينها، فقط، سيكون تنفيذ محسن لقرار إقالته هو المحك الحقيقي لمدى نزاهته، بغض النظر عن كل قباحته الظاهرة للعيان، أما التنطع ببيان فج وغبي فإنه تمهيد لموقف أخطر .