روائع جمعتها من بطون الكتب سقت لك بعضها كما هي وشذبت وهذبت بعضها وعلقت على بعضها وهي روائع متنوعة ستخلب لب القارئ وتدهشه وتفيده فإلى الروائع : هذا ابن فاطمة حج هشام بن عبد الملك في خلافة أخيه الوليد، فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب - ت 94ه -، فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالا له وهيبة واحتراما، وهو في بزة حسنة، وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام : من هذا ؟ فقال لا أعرفه - استنقاصا به لئلا يرغب فيه أهل الشام - فقال الفرزدق - وكان حاضرا - أنا أعرفه، فقالوا: ومن هو ؟ فأشار الفرزدق يقول: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم ينمى إلى ذروة العز التي قصرت * عن نيلها عرب الاسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم يغضي حياء ويغضى من مهابته * فما يكلم إلا حين يبتسم بكفه خيزران ريحها عبق * من كف أروع في عرنينه شمم مشتقة من رسول الله نبعته * طابت عناصرها والخيم والشيم (1) ينجاب نور الهدى من نور غرته * كالشمس ينجاب عن إشراقها الغيم حمال أثقال أقوام إذا فدحوا * حلو الشمائل تحلو عنده نعم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا كلتا يديه غياث عم نفعهما * يستوكفان ولا يعروهما العدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره * يزينه اثنتان الحلم والكرم لا يخلف الوعد ميمون بغيبته * رحب الفناء أريب حين يعتزم وليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم فغضب هشام من ذلك وأمر بحبس الفرزدق بعسفان، بين مكةوالمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها وقال: إنما قلت ما قلت لله عز وجل ونصرة للحق، وقياما بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذريته، ولست أعتاض من ذلك بشئ. فأرسل إليه علي بن الحسين يقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك، وأقسمت عليك بالله لتقبلنها فتقبلها. صدقة السر لم تقل القصيدة السابقة مجاملة بل قيلت وقد سبقها فعال علي بن الحسين الباهرة ونسوق بعضها عن عمر بن حارث. قال : لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره. فقالوا : ما هذا ؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة. وقال ابن عائشة: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين. وروى عبد الله بن حنبل: عن ابن اشكاب، عن محمد بن بشر، عن أبي المنهال الطائي أن علي بن الحسين كان إذا ناول المسكين الصدقة قبله ثم ناوله . لايمدح إلا الملوك لما قدم الشاعر أبو الطيب المتنبي من مصر إلى بغداد، ترفع عن مدح المهلبي الوزير، ذهاباً بنفسه عن مدح غير الملوك،- طبعا كان ذلك بعد أن إشتهر وعرف - شق ذلك على المهلبي، فأغرى به شعراء بغداد، حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه، وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة محمد بن عبد الله الزاهد الهاشمي، والحاتمي، وأسمعوه ما يكره، وتماجنوا به، وتنادروا عليه، فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك، فقال: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء: أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العضالا ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا وقولي: أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني قصير يطاول لساني بنطقي صامت عنه عادل ... وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل وما التيه طبي فيهم غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتعاقل وقولي: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل يماني لا مثيل له فتح يزيد بن المهلب جرجان – عام 98ه - وأصاب تاجاً فيه جواهر فقال: أترون أحداً يزهد في هذا ؟ قالوا: لا. فدعا محمد بن واسع الأزدي اليماني فقال: خذ هذا التاج. قال: لا حاجة لي فيه. قال: عزمت عليك. فأخذه، فأمر يزيد رجلاً ينظر ما يصنع به، فلقي سائلاً فدفعه إليه، فأخذ الرجل السائل وأتى به يزيد وأخبره، فأخذ يزيد التاج وعوض السائل مالاً كثيراً . وصية المهلب اليماني احضرالقائد والفاتح البارز المهلب بن أبي صفرة اليماني ولده فوصاهم، وأحضر سهاماً فحزمت، فقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا قال: أفتكسرونها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والقلة والذلة، وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من مقالكم، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش منها ويزل لسانه فيهلك، اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحيوا العرف، واصنعوا المعروف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف بالصنيعة عنده عليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة، فإنها أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد، وإن لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وأدب الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم. ثم مات، رحمه الله تعالى – ت 82ه - هكذا الروؤساء قالت فاطمة امرأة عمر بن عبدالعزيز : دخلت عليه وهو في مصلاه ودموعه تجري على لحيته فقلت: أحدث شيء؟ فقال: إني تقلدت أمر أمة محمد فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والغازي والمظلوم المقهور والغريب الأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى الله، فخشيت أن لا تثبت حجتي عند الخصومة، فرحمت نفسي فبكيت. أقول : عندما خاف عمر بن عبدالعزيز وبكى شبع المسلمون واليهود والنصارى بل حتى الطيور والكواسر شبعت في عهده فلله دره ورحمه وغفر له . هامش (1) النبعة: شجرة صلبة الالياف تتخذ منها القسي، وكنى بها عن الاصل والارومة. والخيم: الاصل والشرف .