نعم، للصداقة حدود ومقاييس يجب أن يراعيها الأصدقاء تجاه بعضهم البعض، لأن من أهم مقاييس الصداقة تقدير الآخر ومن أهم الحدود توفير حرية التعبير عن أفكاره وقناعاته مهما كان نوعها أو اتجاهها، إلا أن يكون فيها معصية للرحمن. الأصدقاء الجيدون من أثمن ما يقتنيه الإنسان ولهذا يجب أن يتم اختيارهم بعناية فائقة وفق مقاييس جوهرية إنسانية تترجمها مواقف وسلوكيات راقية ومتوازية وداعية للفضيلة في صورها البسيطة والمعقدة. الصدق والأمانة من أهم الصفات التي ينبغي أن تتوفر في أصدقاء المرء، لأن الصدق يهدي إلى البر بكل أشكاله الخاصة والعامة والأمانة تصون سلامة الذمم من التعلق بما لم يكن من نصيبها في اللوح المحفوظ. الصداقة رابطة اجتماعية وإنسانية متينة من أولى مهامها التوجيه والنصح والإرشاد وتقديم المشورة حباً في الله قبل كل شيء وحرصاً على مصلحة من نخالط من البشر. ينبغي أن لا تتحول الصداقة إلى علاقة تمّلك واستحواذ على الشريك كما لا يجب أن تطغى عليها الشراكة المادية أو تثقل كاهلها اختلاف التوجهات الدينية أو السياسية أو سواها من مبادئ التشريع الاجتماعية. الإيثار رأسمال الصداقة وهو الوقود الذي يبقيها مشتعلة إلى الأبد، لأنه يبقيها سليمة من الأطماع وآفات النفس العابثة بصفاء النوايا وسلامة الضمائر ولكن ينبغي قبل إظهار مشاعر الإيثار والتضحية التأكد من أننا قد أغلقنا باب المجاملة بيننا وبين من اقتسمنا وإياهم قربة الطريق والأوطان. الصاحب أو الصديق هو من نقضي إلى جواره ساعات طويلة ليكون نسخة منا أو نصبح نسخة عنه، فالخلطاء يتجانسون صوتاً وصورة وسلوكاً ولهذا قد نتعجب من بعض الأصدقاء الذين تصل بينهم درجة الشبه إلى حدٍ كبير وكأنهم إخوة حملتهم بطن واحدة. ولهذا ورد في سنتنا النبوية الشريفة عن رسولنا الكريم قصة حامل المسك ونافخ الكير الذي لا بد أن تحدث بمخالطتهما ثبات الصفة على الموصوف ولهذا يقال أيضاً في لغة العوام "الصاحب ساحب"، بمعنى أن الصاحب يجر صاحبه إلى إتباع ملته الأخلاقية دون أن يشعر في شكل سلوكيات بسيطة تتبعها قناعات عميقة تؤدي بالضرورة إلى الإتباع والتبعية. ولهذا أيضاً يحكم على الناس من خلطائهم، فيقال: قل لي من تعاشر أقول لك من أنت.. ولهذا أيضاً قال الشاعر: إن القرين إلى المقارن ينسبُ، والمقارنة قد تضع بعض الأبرياء في فقص الاتهام بالرغم من أنهم ليسوا من ذلك النوع الذي يذوب في فلسفة الآخر. لا يجب أن تطغى مشاعر الصداقة على مشاعر أخرى أهم وأكثر مسؤولية كمشاعر الأخوة أو الأبوة والأمومة ولهذا يحدث الخلل حين يفضل أحدنا صديقه على أبنائه أو زوجته أو أخوته مثلاً، فالأصل أن تبني الصداقة بيوتنا وتقوم اعوجاج سلوكنا وتذكرنا بجوانب النقص حين يحدث ذلك دون أن نشعر. الصديق الحقيقي هو من نشعر أمامه أننا نقف أمام أنفسنا، إنه المرآة التي تظهر عيوبنا ومزايانا التي نغفل عن إدراكها أمام آخرين. إذاً للصداقة حدود عاطفية بحيث لا يطغى حب أصدقائنا على حب آخرين في منازلنا هم في أشد الحاجة إلى هذا الحب أو تلك العاطفة، ولها أيضاً في حدود وظيفية، بحيث لا تطغى الصداقة على مقاييس الأداء الوظيفي، وحدود دينية لا يجب أن تتعداها أي مشاعر مهما كان نوعها، إذ ينبغي أن لا ننشغل عن أداء عباداتنا مهما كان أهمية الأحداث أو الأشخاص من حولنا. ولها مقاييس أخلاقية عالية وفضيلة علينا أن نراعيها فيمن نخالل، وإلا فإن ما أمامنا من المهام والوظائف والواجبات والعلاقات الأسرية أهم بكثير، وحتى لو لم توجد كل تلك المهام، فالوحدة عبادة ولعل خلوة مع الله فيها محاسبة للنفس أحب إلينا من خلوة مع صديق تظلم بعدها زوايا النفس.