تحاول الدول الغربية الرأسمالية الكبرى أن تجد حلا للأزمة المالية العالمية التي عصفت ولا تزال تعصف باقتصادياتها. وهكذا تدخل قمة الدول العشرين المنعقدة بلندن في إطار إيجاد مخرج للرأسمالية المتعثرة، ولتناقضاتها المعقدة. ويبدو واضحا بأن الغرب الرأسمالي يبذل كل جهوده لجر بعض دول العالم الثالث لفبركة علاج لأمراضه التي يصدرها للعالم بأسره. وفي هذا الإطار قال الرئيس البرازيلي "لولا" بما معناه بأن هذه أزمة الرجل الأبيض صاحب العيون الزرق وما عليه سوى أن يفكها بنفسه. وفي الواقع، فإن العالم الثالث قد استسلم في المرحلة التي تلت انهيار المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي لهجمة العولمة الآتية من المراكز الرأسمالية الأوروبية- الأمريكية. إن هذا الاستسلام قد لعب دورا أساسيا في تحويل بلدان العالم الثالث إلى حقل تجارب للشركات متعددة الجنسيات، وإلى سوق رخيصة لها، ودون أن تحدث فيها تنمية حقيقية على المستويات الاجتماعية، والصناعية، والاقتصادية، والثقافية. وبالعكس، فإن الذي حدث في بلدان العالم الثالث هو إعطاء الشرعية للتفاوت الاجتماعي الهائل بين الشرائح الاجتماعية. وتكريس البطالة، والفقر، والتخلف البنيوي. فالأزمة المالية العالمية تفسر من قبل الرأسماليين الغربيين بأنها مسألة تتعلق بالتنظيم المالي ولكن الواقع يقول بأن التنظيم جزء بسيط من الأزمة. فالأزمة تعود إلى السيطرة الكاملة لمجموعة قليلة من الدول، ومن الشركات العالمية على مقدرات الاقتصاد والسوق على حساب الأغلبية الساحقة من دول العالم في الفضاء المدعو بدول الأطراف. وفي الواقع، فإن أزمات الرأسمالية عبر التاريخ كثيرة. إذ يسجل المفكر الاقتصادي المصري الدكتور سمير أمين مجموعة من الأزمات التي شهدتها الرأسمالية الغربية. هناك أزمة حادة حدثت من عام 1814م إلى 1848م، وأخرى في المرحلة الممتدة من 1872م إلى 1893م، وكذلك أزمة 1914م- 1945م. فالأزمة الحالية التي تضرب المراكز الرأسمالية، وتنتقل عدواها إلى دول العالم الثاني والثالث قد بدأت حسب تقدير الدكتور سمير أمين منذ عام 1968م وليست نتاج بدايات القرن الواحد والعشرين كما يحلو لبعض التأويلات الخاطئة، وخاصة في الغرب، أن تعيد جذور المشكلة الرأسمالية. وفي هذا الإطار يرى الدكتور سمير وذلك في كتابه "نقد روح العصر" بأن العلاج ينبغي أن ينطلق من فهم حقيقة وهي أن الرأسمالية ليست مجرد تنظيمات بنكية، ومظاهر اقتصادية، بل فإن "الخصائص الجوهرية لهذه الثقافة يمكن تفسيرها، بيسر، من خلال الخصائص الجوهرية للرأسمالية". إنه ينبغي أيضا إعادة النظر في النظريات التقليدية التي تفسر الرأسمالية. وبهذا الشأن يقول سمير أمين "إن الطبقات الاجتماعية في الرأسمالية وحدها، لا تتحدد فقط بعلاقات الإنتاج "وبتوزيع فائض القيمة". فالرأسمالية تقوم على الاستيلاب الاقتصادي". ومما لا شك فيه أن هذا الاستيلاب الاقتصادي الرأسمالي- حسب وجهة نظرنا- يتزامن مع، وينطوي أيضا على الاستيلاب الثقافي، ويلعب دورا محوريا في طمس الوعي الإنساني وهنا يقترح الدكتور سمير أمين تجاوز "فكرة تحديد الطبقات ليركز على التحالفات الطبقية، القائمة أو الممكنة في مراكز النظام العالمي كما في أطرافه". نحو وعي جديد إن فكرة التحالفات التي يطرحها الدكتور سمير أمين قد طرحت أيضا من قبل أسرة تحرير مجلة "ذي انترناشيونال" الصادرة ببريطانيا والتي تعد الشيء المركزي للأممية الدولية العمالية الرابعة. كما نرى فإن انعقاد قمة الدول العشرين لمعالجة أمراض الرأسمالية على ضوء الأزمة المالية التي تدعى بالعالمية يدخل أيضا في إطار التحالف الرأسمالي المضاد لأي تحالفات معادية للرأسمالية. ففي الواقع فإن وصف الأزمة المالية التي تعصف أصلا بالأنظمة الرأسمالية المركزية بالعالمية يمثل نزعة التنصل من المسؤولية لهذه المراكز من جهة، وتمثل محاولة منها لإبراز أن الأزمة ذات أساس وطابع عالميين، وليست ذات أساس وطابع غربي رأسمالي فقط من جهة أخرى. وهكذا، فإن الغرب الرأسمالي يمارس دور الضحية، وليس الجلاد. وبناء على ما تقدم، فإن الوعي الجديد المطلوب التحلي به، وتطويره، وبالتالي تفعيله ينبغي أن يقود التحالفات المضادة للرأسمالية إلى الكشف عن التزييف الذي تمارسه الأنظمة الرأسمالية الكبرى وفي مقدمتها مجموعة الدول ال"7" التي تسيطر على الاقتصاد العالمي، وعلى المؤسسات المالية التي تدعى بالدولية في حين أنها تابعة لها وتعمل بموجب سياساتها ومخططاتها. حوار دول جنوب- شمال؟ إن الرأسمالية العالمية المتمركزة في أوروبا الغربية وفي أمريكا الشمالية قد عرقلت، ولا تزال تعرقل حوار شمال- جنوب، وترفض بالتالي مطالب دول العالم الثالث في توزيع الثروة العالمية بعدالة سواء كانت هذه الثروة تتمثل في النقود، أو الثروة الزراعية والفلاحية، أو الثروة المائية، أو الثروات الأخرى بما في ذلك المعرفة، والتقنية، والتكنولوجيا. وفي الواقع، فإن إفشال دول الشمال للحوار مع الفضاء الجنوبي هو من العوامل المحورية في أزمة الرأسمالية الغربية، وفي الأزمة المالية التي هي فرع من فروعها الجزئية. ومن جهة أخرى فإن فشل حوار مجموعة 5 + 5 قد ساهم في تسريع الأزمة الاقتصادية. إنه يبدو بأن الدول الرأسمالية الغربية لم تتخلص بعد من الذهنية المركزية التقليدية الموروثة عن الاستعمار الكلاسيكي. كما هو معروف فإن جميع المحاولات المبذولة من قبل دول الجنوب لتجاوز العقلية الاستعمارية في العلاقات الدولية المعاصرة قد باءت بالفشل حتى الآن. وبالعكس فإن المنظومة الأوروبية الرأسمالية، وكذلك أمريكا لا تعنيها التنمية في دول الأطراف، ولا يهمها أمنها الغذائي والمعرفي. بل فإن أولوية الأولويات للسياسات الغربية الرأسمالية تتمثل في نهب الثروات في العالم الثالث، وفي تنصيب الأنظمة الحاكمة التي توفر لها ما تريده، وتحقق لها توسعها الاقتصادي، وهيمنتها السياسية، وحتى الأمنية. ومن بين المشكلات الكبرى التي تعاني منها الأخلاقيات الدولية في مجال توزيع الثروة مشكلة فرض نظم وأساليب الحكم، وكذلك خيارات التنمية من قبل القوى الرأسمالية الغربية على مجتمعات العالم الثالث منها المجتمعات العربية- الإسلامية. وهل يمكن في مثل هذا المناخ تشكيل تحالفات فكرية وسياسية، واقتصادية لمناهضة الرأسمالية المتوحشة؟ وهل تستطيع مثل هذه التحالفات أن تحدث تغييرات جذرية في النظام الاقتصادي العالمي كشرط لتجاوز الأزمة المالية؟ أشكال التحالفات من الملفت للنظر أن الأنظمة الرأسمالية الغربية الكبرى قد تمكنت من إنشاء "هوائيات" مشوهة لها في معظم أجزاء العالم. وتتمثل هذه "الهوائيات الرأسمالية" التي توجد الآن في بلداننا أكبر عقبة في التنمية الوطنية. إن هذه "الهوائيات" المغروسة بإيعاز من القوى الغربية تتمثل في القطاعات والشرائح الاقطاعية، والبرجوازية الصغيرة الموروثة جزئيا عن عهد الاستعمار، والمستحدثة جزئيا أيضا في مرحلة ما بعد الكولونيالية. نحن إذا أمام تكتلات خارجية وداخلية تجمعها النزعة الرأسمالية، والاستيلاء على الثروة. ومن هنا، فإن المعركة ليست جزئية، أو على مستوى مجابهة الداخل للخارج، وإنما هي معقدة جدا. وهكذا، فإن أشكال التحالفات واستراتيجياتها تتميز بالتنوع. وهناك مقترحات تدعو على العمل على تشكيل تحالفات متكونة من قوى الرفض للرأسمالية المتوحشة، ومن التنظيمات الحزبية التي يمكن أن تجتمع تحت مظلة نشدان العدالة الاجتماعية، ومعاداة التمييز الطبقي، والعنصري، والاثني، والتهميش الثقافي. بمعنى فإن المطلوب كتحالفات هو تكوين جبهات يشترك فيها الوطني الداخل مع العالمي في مواجهة تكتّل "الفصائل" الرأسمالية المتحالفة بأشكال سلمية، ومن خلال النضالات المدنية والسياسية والثقافية والأخلاقية. *كاتب ومفكر جزائري