ثلاث صفعات متتالية وجهها الرئيس هادي لعلي صالح في أقل من 24 ساعة: الأولى توجيهاته الصريحة بإطلاق عدد من معتقلي شباب الثورة المعتقلين منذ حوالي عامين بتهم كيدية على ذمة حادثة تفجير جامع النهدين بدار الرئاسة في 3 يونيو 2011. وأعاق صالح محاولات إطلاقهم ليتمكن من مقايضتهم بجريمة جمعة الكرامة (21 مارس 2011) المتهم بها هو وعدد من أفراد عائلته وأركان نظامه السابق. والثانية قرار المحكمة الاستئنافية بأمانة العاصمة تأييد القرار الابتدائي القاضي بالتحقيق مع صالح و11 متهماً آخرين من رموز نظامه السابق في قضية جمعة الكرامة، وهي أحد الملفات الساخنة التي شرع الرئيس هادي بفتحها تمهيداً لجرجرة صالح في المحاكم، لتكون هذه القضية باكورة ملفاته التي سيتم فتحها تباعاً كلما حاول صالح العبث والضرب تحت الحزام. والثالثة إغلاق ميدان السبعين في وجه أنصار علي صالح الذين دفع بهم للاحتشاد والتنديد بإطلاق شباب الثورة في رسالة كانت موجهة لهادي، فيما كانت رسالة الأخير أشد قوة، إذ للمرة الأولى يؤكد هادي بذلك الإجراء أن السبعين لم يعد متنزهاً لصالح. الاستنجاد بالمؤتمر فجأة يقرر حزب المؤتمر دعوة اللجنة الدائمة للحزب لمناقشة التحضير لعقد المؤتمر العام الثامن وانتخاب قيادة جديدة للحزب تواكب التطورات السياسية والاجتماعية وتٌقي�'م المنعطفات التاريخية التي مر بها الوطن منذ بداية أزمة العام 2011، وفقاً لما ذكره موقع المؤتمر نت. ومعلوم أن المؤتمر، بضغوط من صالح، أرجأ انعقاد مؤتمره العام الثامن إلى أجل غير مسمى نتيجة الخلافات المستفحلة في أوساطه حول قيادة الحزب التي من المفترض أن تؤول إلى هادي طبقاً للنظام الداخلي للمؤتمر الذي ينص�' على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الحزب. فما الذي استجد إذاً كي يُقر المؤتمر دعوة لجنته الدائمة والتحضير لعقد المؤتمر العام الثامن؟ الأكيد أن خطو كهذه لا يمكن أن تتم بمعزل عن موافقة صالح، إن لم تكن بتحريض منه. والأكيد كذلك أن مثل هذه الخطوة تأتي في ظل احتدام الصراع، الذي لم يعد سراً، بين الرئيس والزعيم، وبخاصة بعدما قررت المحكمة الاستئنافية تأييد قرار المحكمة الابتدائية باستجواب صالح وعدد من معاونيه في قضية جمعة الكرامة. فمن ناحية: لا يتخيل صالح نفسه وهو يقف أمام المحققين وهم يستجوبونه في جريمة قتل ظن أنه قد نجح بالفعل في إخفاء أدلتها وطمس معالمها والعبث بملفها. ومن ناحية أخرى، وهو الأمر المهم، يدرك صالح جيداً أن امتثاله لقرار المحكمة الذي هو بالأصل قرار الرئيس هادي، يفتح على نفسه أبواب جهنم ويقود لفتح المزيد من ملفاته، وما أكثرها. لذا قرر صالح الاستعانة بالمؤتمر لكبح جماح هادي والتصدي لخطواته. في كل الأحوال، ثمة احتمالان يفسران القرار المفاجئ للمؤتمر الشعبي للتحضير لعقد مؤتمره العام. الاحتمال الأول أن تكون خطوة المؤتمر تلك في جانب التصعيد الذي يخوضه صالح لمقارعة الرئيس هادي وتشكيل ضغوط من حوله، ضمن سياسة الاحتماء بالحزب لوقف المزيد من إجراءات الرئيس، وتحشيد كتلة الحزب التنظيمية للوقوف وراء صالح والتلويح بإعادة انتخابه رئيساً للحزب، لإحراج هادي وإضعاف مكانته وموقعه فيه. لكن من شأن هذه الخطوة (إعادة انتخاب صالح لرئاسة الحزب) أن تحمل تداعيات خطيرة على مستقبل الحزب نفسه، فهي قد تعجل بالتحاق هادي بركب المشترك بطريقة أو بأخرى. أضف إلى ذلك، فالمؤتمر كان قد أعلن على لسان ناطقه الرسمي أن الرئيس هادي هو مرشحه القادم للانتخابات الرئاسية في 2014، وبالتالي فإن أي قرار يتخذه المؤتمر العام بعيداً عن هادي سيمثل انتكاسة كبيرة للحزب وطعنة غادرة للرئيس، وسيكون أمر ترشحه للانتخابات المقبلة باسم المؤتمر كأن لم يكن، إذ لن يقبل هادي بدور ثانوي في حزبه تحت قيادة صالح، فيما هو مرشح الحزب لرئاسة البلاد، فخطوة كهذه سيعدها بمثابة إهانة له وتخل صريح عنه، واصطفاف وراء صالح في مواجهته، وهو ما قد يجعله يعيد التفكير جديا بمسألة بقائه في الحزب من عدمه. الأمر الآخر، إعادة انتخاب صالح في المؤتمر العام رئيساً للحزب سيعني بداهة أن الحزب قرر وبكل سهولة التضحية بمصالحه من أجل لاشيء!! فاستدراك مصالح "صالح" الشخصية لا تزيد شيئاً في مصالح المؤتمر، بقدر ما تضاعف خسارته، فهو سيخسر رئيس جمهورية فعلي في مقابل أن يحتفظ برئيس سابق! أي حزب سياسي واع يمكنه التفكير بمثل هذا المنطق؟! وبناء عليه، فهذا الاحتمال مرجوح، بينما الاحتمال الراجح (الثاني) هو: أن يكون انعقاد المؤتمر العام الثامن وانتخاب قيادة جديدة للحزب بمثابة صفقة يعرضها صالح على الرئيس هادي، مؤداها الاتفاق على تنازل صالح عن رئاسة الحزب للرئيس هادي، بعد أن تم تسمية الأخير مرشح المؤتمر للانتخابات الرئاسية المقبلة، مقابل أن يكف هادي عن فتح ملفات صالح المعلنة منها وغير المعلنة، وبخاصة ملفي جمعة الكرامة والوساطة المغدورة اللذين فتحا ملفيهما، بالإضافة إلى تلك الملفات التي تنتظر استيفاء أوراقها في أدراج الرئيس، والتي يد�'خرها لصالح كلما أوغل في عناده وتحديه. تضييق الخناق على صالح أخطأ صالح حين أوعز لأحد قادة المؤتمر باتهام الرئيس هادي بوقوفه وراء حادثة تفجير دار الرئاسة، كرد متسرع على قراره إطلاق بعض معتقلي شباب الثورة غير المدانين بالحادثة، فقد تبين أن هادي ليس من ذلك الصنف من الرجال الذين يرضخون للابتزاز ويقدمون تنازلات. وهنا أيضاً يمكن القول أن الرئيس السابق عاد مجدداً لممارسة الابتزاز، ويبدو أن آخر أوراقه في هذا الجانب ستتجه صوب مؤتمر الحوار والتلويح بمقاطعته والانسحاب منه، وربما يكون بحاجة لمساندة حزبه في هذا الجانب، وربما يكون مثل هذا الأمر أحد ملفات المؤتمر العام الثامن التي سيجري مناقشتها في محاولة أخيرة لترهيب الرئيس هادي وابتزازه ودفعه لإغلاق بعض ملفات صالح وأولها ملف جمعة الكرامة الذي أخذ يلتف حول عنقه. ويبدو أن الرئيس هادي يستشعر مثل هذا الأمر، لذا فقد سارع إلى إطلاق تحذير شديد اللهجة من أن المقاطعين لمؤتمر الحوار الوطني سيواجهون غضب الشعب والعقوبات الدولية. وهي مسألة واضحة لعلي صالح وحلفائه في الشمال والجنوب أن محاولاتهم إفشال مؤتمر الحوار ستبوء بالفشل، وبالتالي لا داعي للتهور. لكن وبصرف النظر عن كل ذلك، فإن من المؤكد أن الرئيس هادي يحتفظ بحوزته بعدد من الملفات الخطيرة بشأن صالح، وسيعمد إلى اللعب بها في مواجهته لتشديد الخناق عليه وإرغامه على الإذعان آجلا أم عاجلا. أهم تلك الملفات المتراكمة التي سيعاد فتحها، ملف الاغتيالات السياسية، وهو ملف كبير جداً وحساس للغاية، وسيفتح أبواب جهنم ليس على صالح وحده، بل على الكثير من حلفائه، وربما يؤدي تالياً إلى ضعضعة حزب المؤتمر وتفسخه. وهنالك ملف ترسيم الحدود اليمنية السعودية، وهو مثقل بالفضائح، وملف الفساد ونهب ثروات اليمن النفطية والغازية، وملف التهريب والاتجار بالسلاح والمخدرات، وملف الإرهاب، وملف النفايات النووية التي جرى دفنها في أماكن عديدة من السواحل اليمنية مقابل مبالغ كبيرة، وملف حروب صعدة الست وما رافقها من جرائم وانتهاكات، وما صاحبها من صفقات بين الأطراف المعنية المستفيدة، وملف نهب الجنوب والسطو على أراضيه وتقاسمها بين الجهات النافذة ومراكز القوى في الشمال والجنوب على حد سواء. كل تلك الملفات كفيلة بإخراس صالح فيما لو فكر بمناطحة الرئيس هادي وعدم التسليم له كرئيس للجمهورية، ومحاولة منازعته سلطاته، أو الاستمرار بنسج المؤامرات ضده، وإدارة عمليات التخريب هنا وهناك لإفشال التسوية السياسية ومؤتمر الحوار وتعطيل إجراء الانتخابات في موعدها المقرر. فالرئيس هادي يريد التخلص من لقبه الحالي كرئيس توافقي انتقالي، فهو ينتقص من شرعيته، التي ستتعزز وتكتمل في انتخابات فبراير 2014، فالمضي نحو الانتخابات يتعزز كخيار رئيس بالنسبة لهادي، وهذا ما ذهب إليه المبعوث الأممي إلى اليمن السيد جمال بن عمر حين قال بأن ما يتم تداوله عن تمديد فترة الرئيس هادي مجرد شائعات لا أساس لها، مؤكداً أن موضوع التمديد لهادي لم يُطرح رسمياً، ولم يُبحث بأي شكل من الأشكال. على الرغم من أن أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني يقول بأن هناك ربما ضرورة للتفكير في هذا الموضوع- أي التمديد- مضيفاً، ولكن بأي صيغة من الصيغ، مستطرداً، أن مثل هذا الموضوع يفترض أن يطرح بعد أن يكون مؤتمر الحوار قد أنجز قدراً من عمله. خيارات صالح بالنظر إلى شخصية الرئيس السابق العنيدة المتحكمة في سلوكه، إلى جانب تغذية مقربيه لروح التحدي عنده، فالرجل لن يستسلم ويلقي الراية البيضاء بسهولة، وسيعمد إلى وسائله الخاصة في مواجهة خصومه الذين انتزعوا منه السلطة وأرغموه على المكوث في منزله لكتابة مذكراته. وتؤكد المؤشرات بأن صالح ألقى بكل ثقله وراء الحوثيين ليكونوا في صدارة المشهد بينما سيتوارى هو ويدفع بهم من الخلف، فالحوثيون، بما يمتلكونه من إمكانات مادية وبشرية وخلفية عقائدية، صاروا الأقدر من صالح وحزبه على قيادة ثورة مضادة والتصدي لهادي وأحزاب المشترك، وهم جادون في بناء جيش مواز تدعمه إيران بكل ما يحتاجه من أموال ومعدات وخبرات، وتؤكد المصادر أن جزءا كبيرا من سلاح ما كان يعرف بالحرس، إضافة إلى أجهزة تنصت متطورة، سُلمت لجماعة الحوثي، الذين يبدون وكأنهم الوريث الشرعي لتلك القوات المنحلة. علاوة على ذلك، فصالح يراهن على تدهور علاقة هادي بالسعودية نتيجة إصراره على المضي في الاستكشافات النفطية في حوض الجوف الواعد. كما أن ورقة الانسحاب من مؤتمر الحوار الوطني وتأليب الحوثيين وبعض مكونات الحراك على الانسحاب منه تبقى مطروحة ضمن مخطط صالح في قابل الأيام لإرباك المشهد السياسي وإفشال الحوار، لكنها كما قلنا آنفا لن تكون مجدية في ظل وقوف المجتمع الدولي بثقله وراء هادي وفي ظل لجوء الأخير لفتح ملفات صالح الواحد تلو الآخر. وثمة ملاحظة جديرة بالتأمل وهي، من الصعوبة على الرئيس هادي أن يدشن فترة رئاسية جديدة تكون امتداد لمرحلة سابقة من الفشل في الحوار أو الفشل في إجراء الانتخابات في موعدها، ولن يكون من السهل عليه أن يبدأ عهداً جديداً (توافقياً) يحمل في طياته بذور إخفاقات سابقة ستقف حتماً عثرة أمام نجاحات تالية. يبدو الرئيس هادي، وإلى حد كبير، وكأنه صورة أخرى من صالح، لكن في شق واحد منها فقط هو التحدي والمثابرة، وإلى حد ما المرواغة والمناورة. [email protected]