نجح الرئيس السابق في إرباك المشهد السياسي اليمني بكل تفاصيله إلى الحد الذي توقع فيه أن الأوضاع باتت مهيأة لتلقين هادي درسا وهز صورته أما شعبه، وإغراق البلد في مزيد من الفوضى وأعمال العنف، على اعتبار أن ذلك يمسح الغبار عن صورة النظام القديم ويخلق فرصا أحسن لمنافسة هادي مستقبلا. وفي حين يميل البعض لتوصيف ما حدث الأسبوع الفائت من أعمال شغب في العاصمة على أنه محاولة انقلابية أرادت التطويح بهادي ونظامه، إلاّ أن صالح ليس بتلك السذاجة، فهو يعلم جيدا من أين تؤكل الكتف، ويدرك من خبرته الطويلة أن الشارع والغوغاء لا يصنعون انقلابا، وإن كانوا يهتفون له ويمنحونه تأييدهم عقب نجاحه، كما في الحالة المصرية على سبيل المثال. ويدرك صالح كذلك أن ما حدث في مصر يوم 30 يونيو2013 لم يكن ثورة شعبية حقيقية كما رُوج له، وأن الجماهير التي خرجت إلى الميادين والشوارع لم تقد انقلابا ولم تسقط نظام الرئيس المنتخب محمد مرسي وإنما أوجدت غطاء شعبيا لتمرير الانقلاب الذي قام به العسكر بقيادة رجل المخابرات القوي عبد الفتاح السيسي. وحالة الشغب المفتعلة التي سعت لركوب أزمة المشتقات النفطية كشفت بجلاء عدم امتلاك صالح للغطاء الشعبي اللازم والكافي لتمرير محاولة انقلابية كالتي في مصر، في الوقت الذي يفتقر لوجود شخصية عسكرية قوية ومسيطرة في أوساط الجيش كالسيسي، قادرة على المبادأة وقلب الطاولة، ما يجعل البون شاسعا بين الحالتين اليمنية والمصرية. وبالتالي يمكن القول أن ما حدث في صنعاء يخرج عن كونه محاولة انقلابية إلى حالة من الفوضى والشغب (المنظم)، أراد إقلاق الأمن وزعزعة الاستقرار وتشويه النظام وهز صورته وثقة الناس به، أما العملية الوحيدة التي يمكن وصفها بالفعل بالمحاولة الانقلابية فهي تلك التي تمت في مجمع وزارة الدفاع بصنعاء يوم الخامس من ديسمبر 2013، وتم إخمادها خلال ساعات، ما يعطي دليلا إضافيا على تنامي قوة الرئيس هادي وانحسار قوة النظام السابق، وهو ما بدا واضحا أيضا من خلال إحباط الرئيس هادي لعملية الشغب الأخيرة وتمكنه من احتوائها في وقت وجيز وبأقل الخسائر. أخطاء هادي وحلفائه من نافلة القول أنه لو كنا أخذنا حذرنا من البداية وتلافينا في حينه القصور والأخطاء التي صاحبت ثم تلت توقيع المبادرة الخليجية لربما كنا استطعنا تجنب الكثير مما نعانيه اليوم، فقوى الثورة أبدت مرونة غير مطلوبة أثناء توقيعها المبادرة، واعتقدت أن توقيع صالح كاف لإتمام عملية نقل السلطة بسلام. فمنحته الحصانة دون اشتراط عدم مزاولته العمل السياسي، في حين تغافلت بشكل غير مبرر عن المطالبة بالأموال المنهوبة المقدرة بعشرات المليارات من الدولارات، وربما عدّت ذلك ثمن تنازله عن السلطة. وعقب التوقيع لم يبادر هادي وحلفاؤه إلى سرعة نقل السلطة عبر الآليات المنصوص عليها في الآلية التنفيذية للمبادرة، فتعثرت عملية إعادة هيكلة الجيش والأمن، على الرغم من أن الآلية التنفيذية للمبادرة حددت لها فترتين فقط، بحيث تبدأ الأولى عند استلام النائب السلطة في المرحلة الانتقالية الأولى، ثم يتم استكمال الهيكلة عقب انتخاب الرئيس التوافقي الجديد لمدة عامين، أي في المرحلة الانتقالية الثانية. لكن مرت المرحلتين الانتقاليتين الأولى (23 نوفمبر 2011- 21 فبراير 2012) والثانية (21 فبراير 2012- 21 فبراير 2014) دون استكمال مهام هيكلة الجيش والأمن، ما ترك ثغرات كبيرة أمكن استغلالها من قبل الدولة العميقة، التي للأسف ما تزال تحتفظ بنفوذ لا يستهان به في أوساط النظام الحالي. ومن الأخطاء كذلك، عدم جدية هادي -وربما عدم رغبته كذلك- في تحييد وتحجيم مؤسسات الدولة التي تم الإبقاء عليها من العهد السابق كمجلس النواب والمجالس المحلية وجهاز القضاء والسلك الدبلوماسي والجهاز الإداري للدولة الذي ظل كما هو عليه وبتغيير طفيف لا يكاد يُذكر، وكل ذلك مثل رافدا مهما لمخططات زعزعة النظام وإنهاكه وإفشال خطواته باتجاه إعادة بناء الدولة. علاوة على ذلك، فالتوافق السياسي بحد ذاته غدا أحد عوائق التحول ونقل السلطة، إذ استحال إلى تقاسم ومحاصصة وتنافس على المواقع، وغدت المرحلة الانتقالية حلبة صراع للفوز بأكبر قدر من الغنائم وإن على حساب أهداف الثورة وتطلعات اليمنيين نحو التغيير. كما أن لجوء الرئيس هادي لسياسة التوازنات والترضيات وكسب الولاءات والأنصار على حساب الثورة التي جاءت به كان أحد الأخطاء التي فاقمت من أزمات البلاد. وعوضا عن العمل الجماعي في مشروع الثورة ونقل السلطة وإعادة بناء الدولة تسيّدت المشاريع الخاصة وأطلت المشاريع الصغيرة وتنافست في توسيع مصالحها في ظل التنافس المحموم على السلطة. والأهم من ذلك أن القيادة الجديدة رغبت عن مهمة استكمال نقل السلطة وبناء الدولة باعتباره جوهر المبادرة الخليجية وأحد أهم أهداف الثورة الشعبية، وانصرفت عنه إلى مهمة فتح ساحة حوار موسعة كان بالإمكان إرجاؤها إلى ما بعد الفراغ من نقل السلطة وإيجاد الدولة الضامنة القادرة على إنفاذ سلطاتها وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني. الصمت أغرى بالمزيد كل ذلك فتح شهية الدولة العميقة وأحيا فيها الأمل بإمكانية قلب الطاولة واستعادة زمام المبادرة، فكانت غزوة مجمع الدفاع في 5 ديسمبر 2013 التي اكتست طابعا إرهابيا فيما كان هدفها الأول رأس النظام، ورغم تورط عديد جهات وانكشاف أمرها في تلك العملية الإجرامية ومحاولتها التستر وراء تنظيم القاعدة الذي غدا أداة لغسل العمليات القذرة، فقد لزم هادي الصمت محبذا الاحتفاظ بملف القضية إلى أن يحين الوقت المناسب -من وجه نظره- للاستفادة منه. مخاوف الرئيس هادي من انهيار التسوية وتأزم الموقف أبقاه في مربع الصمت والحذر، مفضلا عدم الحديث عمن يقف وراء معظم أزمات البلاد ومحاولات إشعال اليمن واستهداف نظامه، وهو ما أغرى القوى المتآمرة التي يعرفها هادي جيدا كي تحاول الكرة تلو الكرة في الانقلاب على النظام أو زعزعته وتشويه صورته على أقل تقدير، مستفيدة من تنامي السخط الشعبي إزاء إخفاقات الحكومة وفشلها في التعاطي مع ملفي الأمن والاقتصاد، ومستفيدة كذلك من تغاضي الأطراف الدولية والإقليمية عما يدور وعدم جديتها في معاقبة معيقي التحول والانتقال السياسي. والواقع أن مصداقية المجتمع الدولي في وقوفه إلى جانب اليمن أمست على المحك، وستتضح من خلال مدى تعاطيه الجاد مع الأزمات الممنهجة شمالا وجنوبا، ومدى تجاوبه كذلك مع مطالب الرئيس والقوى السياسية الأخرى بضرورة إبعاد الرئيس السابق عن المشهد السياسي وتمكين الرئيس هادي من رئاسة حزبه، علاوة على التوجه الجاد في وضع معيقي العملية الانتقالية على لائحة لجنة العقوبات الدولية، وبالأخص أولئك الذي يصرون على رفع السلاح في وجه الدولة ويسعون لتقويضها ويستهدفون قواتها المسلحة ويحاولون بناء مجدهم على أنقاضها. الصراع من أجل البقاء الصراع بين الرئيسين وحلفائهما سيستمر طالما وعفاش لم يغادر البلاد هو وبقية أفراد أسرته الذين ما برحوا يمسكون بأخطر الملفات في اليمن وباستطاعتهم اللعب فترة أطول بما يمتلكونه من أوراق. وتوجيه هادي بإغلاق قناة اليمن اليوم واسترداد مسجد الصالح ليكون مسجد الشعب لن يكون آخر المطاف بالنسبة للرئيس السابق الذي برهنت التجارب على أنه ذو نَفَس طويل ولا يستسلم بسهولة ولا يلقي بكل أوراقه في سلة واحدة، ومن المؤكد أنه ما يزال يحتفظ في جعبته بالكثير من الأوراق وربما المفاجآت التي يدخرها للأوقات العصيبة. وأهم أوراقه السياسية هي حزبه الذي يوفر له مظلة العمل السياسي، فيما يعد معسكر ريمة حُميد (جنوبي العاصمة) أخطر أوراقه العسكرية والأمنية لجهة الإمكانات التقنية والعسكرية والبشرية التي يتمتع بها، ما يجعل منه أحد أبرز التحديات التي تواجه سلطة الرئيس هادي. ومن المؤكد أن سقوط ذلك المعسكر بيد الجيش ودخوله تحت سيطرته سينعكس بشكل إيجابي لصالح الرئيس وخاصة فيما يتصل بصراعه المرير مع الجماعات الإرهابية المسلحة في الشمال والجنوب. وعلى الرغم من بروز بعض دعوات دولية مؤخرا وعلى استحياء تطالب بضرورة خروج الرئيس السابق من اليمن لضمان نجاح العملية الانتقالية، إلاّ أن أحدا لم يتطرق حتى الآن لمعسكر ريمة حُميد وسبب بقائه في يد صالح وعدم تسليمه لوزارة الدفاع!! وثمة بعض تحالفات مشبوهة داخلية وخارجية يتوكأ عليها صالح ويحاول الصمود بواسطتها في وجه العواصف، لكنها لن تلبث أن تتلاشى بالنظر لكونه هو يتلاشى أيضا ويخسر كل يوم بعض عوامل قوته. والأكيد أن ميزان القوة أخذ يميل لصالح هادي ويُرجّح كفته، في حين بات المجتمع الدولي أكثر قناعة بضرورة تنحي صالح ومغادرته الحياة السياسية، وليس أدل على ذلك من تأكيد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2140 على ضرورة طيّ عهد علي عبدالله صالح لضمان الانتقال، ما يعني أن المجتمع الدولي حسم أمره بالنسبة لعلي صالح واعتبره جزءا من الماضي، فيما الحاضر والمستقبل والقريب هما من حق هادي فقط. على أن الدلائل تشير إلى أن الرئيس السابق سيقاوم الضغوط ومحاولات إخراجه من البلاد، كي يحظى بفرصة منافسة الأحزاب السياسية التي شاركت في إسقاطه من الحكم ويتلذذ بهزيمتها في الانتخابات النيابية المقبلة، ويثبت لها انه ما يزال الأوفر حظا والأكثر شعبية بحسب ما يعتقد، وأن بوسعه قلب الطاولة وتغيير المعادلة السياسية. لكن سيف العقوبات الدولية سيظل مسلطا على رقبته، وسيعمد الرئيس هادي إلى استخدامه في الوقت المناسب ليكون ذو فاعلية أشد، ومن المحتمل أن يلجأ إلى العصا الدولية مع اقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي (الرئاسي والبرلماني) لإرغام صالح على المغادرة وحرمانه من مشاهدة المنافسة الانتخابية أو التدخل فيها أو التأثير على مجرياتها، وإذا ما حدث ذلك بالفعل فستكون حقا ضربة مُعلّم. وقد نجح هادي في توجيه ضربته الأولى حين استحوذ على الوزارات السيادية في تعديله الوزاري الأخير الذي استطاع تمريره بمساندة الدول العشر الراعية للمبادرة، رغم اعتراض صالح وحزبه وبعض القوى السياسية الأخرى، وحتما سيتبع ذلك خطوات جريئة أخرى طالما والمجتمع الدولي يقف إلى جانبه ويُلوّح بعصاه لمن خالفه. [email protected]