جرى التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ضمن عملية سياسية توافقية برعاية دولية وإقليمية كآلية آمنة لنقل السلطة بطريقة سلسة تُجنب البلد مزيداً من الإنهيار, وتحول دون انزلاقه صوب الفوضى والعنف. وبموجب اتفاق نقل السلطة هذا, حصل الرئيس السابق على الحصانة, حيث نصّت الفقرة التاسعة من الآلية التنفيذية على ما يلي: سيتخذ الطرفان الخطوات اللازمة لضمان اعتماد مجلس النواب للتشريعات والقوانين الأخرى اللازمة للتنفيذ الكامل للالتزامات المتعلقة بالضمانات المتعهد بها في مبادرة مجلس التعاون الخليجي وفي هذه الآلية. وبالفعل حصل صالح على الحصانة له ولكل من عمل معه طيلة ثلاثة عقود, دون أن يتم تحديد من هم أولئك الذين سيشملهم قانون الحصانة! وبرغم ذلك, لم تتضمن الآلية التنفيذية للمبادرة أية إشارات صريحة أو ضمنية إلى ضرورة تخلي الرئيس السابق ومعاونوه بشكل كامل عن مزاولة نشاطهم السياسي مقابل حصولهم على الحصانة! وكعادة المعارضة في عدم إظهار تشددها في الوقت المناسب, لم تشترط إدخال نصوص تحظر نشاط صالح السياسي, لا في المبادرة ولا في آليتها التنفيذية, ولا حتى في قانون الحصانة نفسه. واعتبرت أن مجرد توقيعه كافٍ ليغادر المشهد السياسي, وهو خطأ آخر وقعت فيه المعارضة يضاف إلى سلسلة أخطائها التي ارتكبتها في التعامل مع شخص محترف المراوغة والتملص من الاتفاقات. عدم الإفادة من الضغوط الخارجية شيء آخر لم توظفه المعارضة بالشكل المطلوب وهو الضغوط الدولية والإقليمية التي مورست على صالح كي يتنحى عن السلطة, إذ لم تدفع بتلك الضغوط إلى نهايتها لإخراجه بالكلية من المشهد السياسي. وربما لها وجهة نظرها وحساباتها الخاصة, فهي قد تذهب إلى القول- مثلاً- بأن الضغوط الشديدة التي تعرض لها صالح وأقصته عن السلطة ناجمة بالأساس عن تدخل تلك الأطراف الدولية والإقليمية التي وضعت مصالحها نصب عينيها حينما قررت الضغط عليه لمغادرة السلطة, وبالتالي كان لابد من مراعاة مصالح تلك الأطراف, وعدم الضغط عليها أكثر مما ينبغي تجنباً لردود أفعالها التي ربما تقود إلى نتائج سلبية. ومهما يكن الأمر, وحتى إن قيل مثل ذلك, فهو لا يبرر حالة الضعف الدائم التي تظهر من خلاله المعارضة, لدرجة أنها منحت صالح مهلة إضافية ليظل رئيساً شرفياً لمدة ثلاثة أشهر وبلا مقابل, فأخذ وقته في العبث وصنع الفوضى, بل وممارسة القتل والإجرام بحق شباب الثورة في مختلف المدن اليمنية بمجرد وضع توقيعه وعودته من الرياض. ثم لما حان موعد حصوله على الحصانة كان له ما أراد دون أن يطلب أحد منه سرعة المغادرة, أو على الأقل أن يلزم بيته كثمن يُعد قليل جداً نظير ما حصل عليه. وهانحن نحصد المرة تلو الأخرى ثمن تساهلنا مع هذا الرجل. على أن الأمر المحير كذلك, هو هذا التسويف والتهاون من قبل الأطراف المعنية في تنفيذ بقية بنود المبادرة وآليتها التنفيذية, التي اقتصرت حتى الآن على تشكيل حكومة الوفاق واللجنة العسكرية وانتخاب هادي رئيساً للجمهورية, وفيما عدا ذلك فقد صار إلى تجميد الاتفاق, في الوقت الذي بدت تلك المؤسسات خاوية على عروشها من أية سلطات وصلاحيات خولتها آلية تنفيذ المبادرة, فعندما جاء هؤلاء لممارسة مهماتهم بحسب الاتفاق المبرم اصطدموا بواقع مرير تجلى في ظهور علي صالح مجدداً وعدم مغادرته المشهد السياسي واستمرار تدخله الفج في شؤون الحكم, في حين كانوا يتوقعون أن يتوارى الرجل تلقائياً, وهو سوء تقدير من جانبهم ما كان ينبغي الوقوع فيه, وبخاصة مع خبرتهم الطويلة في التعامل معه. على أقل تقدير, كان يفترض الحصول ضمانات موثوقة من رعاة المبادرة بالشروع على الفور في تنفيذ بنود المبادرة بمجرد تشكيل حكومة الوفاق وحصول صالح على الحصانة, وفقاً لما حددته الآلية التنفيذية لكل من المرحلة الإنتقالية الأولى والثانية. خرق اتفاق نقل السلطة عوضاً من إلتفات الأطراف الخارجية إلى ماتبقى من بنود الآلية التنفيذية عقب انتخاب الرئيس هادي, فتعمل على جدولتها وتهيئة الأجواء للبدء في تنفيذها, حاولت بعض تلك الأطراف الهروب من مسئولياتها الأخلاقية والقانونية بوصفها الراعية لاتفاق نقل السلطة, وذهبت تتماهى مع الأجواء المتوترة المفتعلة من قبل أطراف النظام السابق, من أجل إبطاء قضايا في غاية الأهمية حددتها الآلية التنفيذية ورسمتها بكل وضوح وفي مقدمتها هيكلة الجيش والأمن! في الوقت الذي لم تمتلك المعارضة القدرة على العمل بمفردها لعمل ذلك, وبقيت في مربع الانتظار لما سيقرره رعاة المبادرة, فيما باشرت أطراف النظام السابق إلى استزاف جهود المعارضة وحكومة الوفاق وإنهاكهما خارج سياق المبادرة. وكان من المفترض أن تنصرف المعارضة ومجلسها الوطني لحشد الجهود الداخلية والخارجية وصبّها باتجاه العمل على استكمال بنود المبادرة وآليتها التنفيذية. فعلى سبيل المثال: نصّت الفقرة (25) من الآلية التنفيذية للمبادرة على ما يلي " في غضون 15 يوماً من دخول مبادرة مجلس التعاون لدول الخليج العربية وألية تنفيذها حيز التنفيذ، ينشئ نائب الرئيس ورئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني المكلف لجنة التفسير لتكون مرجعية للطرفين لحل أي خلاف في تفسير المبادرة الخليجية والآلية". كما نصّت الفقرة (17) على أن " تقوم لجنة الشؤون العسكرية وتحقيق الأمن والاستقرار خلال مرحلتي الانتقال بتهيئة الظروف واتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق تكامل القوات المسلحة تحت هيكل قيادة مهنية ووطنية موحدة في إطار سيادة القانون". وإلى الآن لم يتم تشكيل لجنة التفسير تلك, كما لم تمارس اللجنة العسكرية صلاحياتها المخولة لها في البدء بهيكلة القوات المسلحة, والتي كان من المفترض أن تبدأ مع بداية المرحلة الإنتقالية الأولى. لكن ولدوافع باتت مفهومة جرى التركيز على مؤتمر الحوار الوطني, وجُمدت خطوات إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية والعسكرية بذرائع شتى, ليمثل ذلك أكبر خرق لما جاء في اتفاق نقل السلطة. ومرة أخرى, نقول كان من المهم تكثيف الجهود وتسليط الضوء صوب تلك القضايا وفي طليعتها الهيكلة, منذ بدء المرحلة الإنتقالية الأولى, والضغط بشتى الوسائل بما في ذلك ساحات الثورة من أجل الدفع لاستكمال بقية بنود الآلية التنفيذية, لا أن يجيء رئيس الحكومة بعد أكثر من ثلاثة أشهر على إعلان حكومته ليقول بأن قوات الأمن المركزي والنجدة والشرطة العسكرية ماتزال جميعها تعمل خارج إطار الحكومة, وتجيء اللجنة العسكرية العليا لتقول بأن موضوع الهيكلة معقد جداً, وتظل تُرحله من وقت إلى آخر, في حين كان يفترض بها القيام بتلك المهمة أو جزء منها على الأقل خلال المرحلة الإنتقالية الأولى طبقاً لما حددته الآلية التنفيذية. هل نحتاج إلى مبادرة جديدة؟! يتعين الآن على الأطراف الخارجية التي رعت المبادرة وتعهدت بالوقوف إلى جانب اليمن لإخراجه من محنته أن تفي بتعهداتها, وتبادر إلى الضغط على صالح وحزبه كي يلتزما بتعهداتهما للخروج من المأزق الذي تمر به العملية السياسية, في ظل إصرار المخلوع صالح على البقاء في الداخل لممارسة " شغلات" ضد معارضيه كما صرح هو بذلك في وقت سابق. لدينا اتفاق جيد يحظى بدعم المجتمع الدولي, وبالتالي لم تكن المعارضة مضطرة لتقديم مقترحات جديدة- وإن كانت نابعة من صلب الاتفاق السابق- من أجل تفعيل المبادرة وآليتها التنفيذية. ولماذا تفعل ذلك وقت تكفلت آلية نقل السلطة بكل الإجراءات اللازمة والضرورية بما تسعى إليه؟ لماذا اللجوء إلى وضع مقترحات وآليات جديدة من طرف واحد فيما كل الأطراف الداخلية والخارجية مجمعة على على أهمية تنفيذ اتفاق نقل السلطة الموقع عليه في الرياض نهاية نوفمبر الماضي؟ إننا حين نلجأ لوضع مبادرات جديدة فإننا- من حيث نشعر أو لانشعر- نُضعف المبادرة وآليتها التنفيذية التي صارت مُلزمة بما اكتسبته من مشروعية دولية بفعل الإجماع الإقليمي والدولي وقرار مجلس الأمن رقم (2014). كل ما نحتاجه هو تفعيل المبادرة وقرار مجلس الأمن الدولي دون الحاجة للدخول في متاهة جديدة من المقترحات التي ستفضي حتماً إلى حوارات جديدة نحن في غنى عنها وستزيد الأمور تعقيداً. علينا غلق الأبواب التي يسعاها صالح وحزبه لفتحها من جديد. إن كسر حالة الجمود المسيطرة على اتفاق نقل السلطة يستوجب أمرين إثنين أولهما: أن يضطلع الرئيس هادي وحكومته بمهامهما دون تردد بموجب الشرعية الشعبية التي عمدتها انتخابات 21 فبراير, ثانيهما: وضع الأطراف الراعية للاتفاق أمام مسؤولياتها الأخلاقية, وتذكيرها بأن مصالحها الاستراتيجية في اليمن تتوقف إلى حد بعيد على مدى جديتها في المضي حتى النهاية في العملية السياسية المفضية إلى استكمال نقل السلطة, وعدم إتاحة المجال مرة أخرى لصالح وأعوانه للعبث بالأوضاع, ومحاولة الإلتفاف على المبادرة وتمييعها, وتقديم البلاد لقمة سائغة لجماعات العنف والتطرف, فالرجل ما يزال يناور ويستميت في إطالة أمد بقائه وعائلته, بانتظار أية تطورات أو مفاجآت يعتقد أنها قد تفيده في قلب الطاولة على الجميع. لذا فهو يعمد إلى خلط الأوراق شمالاً وجنوباً ويسعى جاهداً لتقويض العملية السياسية وإنهاك خصومه, منتهزاً ثغرات المبادرة, وأخطاء المعارضة, وتقاعس بعض الأطراف الخارجية, وخفوت وهج الثورة, وإحكام قبضته على أهم الأجهزة الأمنية والعسكرية, والتلويح بها بين الفينة والأخرى لتغيير معادلة الواقع, الذي قد تغير بالفعل في غير صالحه, لكنه يرفض الاعتراف بذلك لسبب بسيط هو أن خصومه يتحاشون دائماً استخدام ما بأييدهم من أوراق القوة للضغط عليه, تُحرّكهم في ذلك دوافع وطنية صرفة, تعوّد صالح طوال فترة حكمه أن لا يقيم لها أي اعتبار.