تتعدى بعض الأطراف خطوط وأطر اللعبة السياسية إلى مربعات بعيدة غير صالحة للعب، ولا يلبث الأمر أن يخرج من يدها، ثم لا فرق بين أن تكتوي هي بالنار –بعد ذلك- أو لا، لأن المحذور قد وقع على الوطن والمجتمع. يمكن لأي شخص أن يتفهم الفرق بين الحراك الثوري العام في الجنوب، وبين الحراك المطالب بالانفصال بشقيه (السلمي والمسلح)، وأن يتفهم الفرق بين الرافضين لمشروع الحوثي في شمال الشمال، وبين الداعمين له بغض النظر عن اختلاف دوافعهم ومدى صدقهم في ذلك. أما أن ينظم مهرجان لنصرة غزة في عدن ويتعرض للاعتداء من قبل محسوبين على الحراك الانفصالي، فهذه إشارة إلى أمر خطير، وإن لم تكن هذه المرة هي الأولى التي يتلقى الجميع فيها هذه الإشارة. منذ القدم والقضية الفلسطينية هي القاسم المشترك الذي يجمع بين النقائض السياسية والفكرية في المجتمع العربي والإسلامي، وفي مقدمته المجتمع اليمني، بل وكان ذلك في زمن الانقسام بين المعسكرين الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة بين القطبين، فما الذي استجد حتى يتعرض مهرجان جماهيري لنصرة غزة للاعتداء في مدينة عدن!؟ قطعا، لا صلة مباشرة للدعم الإيراني بمثل هذا السلوك، كما لا يقف وراءه التباين بشأن رؤية الجنوبيين للقضية الجنوبية. وإنما هي نتيجة لممارسات بعض القيادات في الداخل والخارج وخطابهم الإعلامي والسياسي الذي أثمر فرزا تعدى القضايا محل الخلاف وآلية التعامل معها والتعبير عنها إلى الفرز والتقسيم للمجتمع على أسس من المشاعر النفسية السلبية لا على أسس الاختلاف العقلاني. لبقايا نظام صالح هدف وغاية في تنظيم ودعم هذه الحملات التحريضية لتغدو المشاعر السلبية دافعا ومحركا للسلوك لدى المستهدفين بحملتهم المستمرة، إذ يوقن بقايا نظام صالح أنه لا بقاء لهم على كراسيهم، فصبوا كل اهتمامهم لزرع الألغام المتفجرة في الحقل الممتد على امتداد الخارطة اليمنية، ولا يهمهم من يصاب بهذه الألغام بعد ذلك. إلا أن هؤلاء البقايا ليسوا هم الطرف الوحيد الذي يقف وراء هذه السياسة الكارثية، فثمة من الأطراف الأخرى من لا يزال يبذل كل جهده في ذات السياق لتحقيق أهداف مرحلية، ويفوته أن الأمر سيخرج من يده عما قريب، وسيفاجأ أنه لا فرق –بعدئذ- بين أن تتحقق له أهدافه أو العكس، فالأمور في الميدان وعلى أرض الواقع ستكون –حينها- قد خرجت عن السيطرة. وسبق أن تعرضت مسيرة في عدن لاعتداء مماثل من قبل أنصار للحراك المسلح المطالب بالانفصال رغم أن هذه المسيرة خرجت بدعوة من "جبهة إنقاذ الثورة" الداعمة والمؤيدة لهذا الفصيل الحراكي. وكان هذا الاعتداء بمثابة الإشارة الأولى للأطراف التي تلعب بنار المشاعر السلبية، ومفاد هذه الإشارة الواضحة أن نتائج حملتهم لن تقتصر على الجهات التي يحددونها هم، بل ستكون عامة شاملة لا تميز بين صديق وعدو، إذ الكل في نظر المستهدفين بالحملة أعداء وخصوم. وذات الأمر يحدث في شمال الشمال وربما بطريقة أبشع وأسوأ، إذ يسعى كثيرون لتأجيج الصراع بين أنصار الحوثي وبين أنصار التجمع اليمني للإصلاح، ويصورون كل خلاف أو نزاع أو حرب في تلك المناطق على أساس أنها حرب بين هذين الطرفين. وعلى هذا الأساس يجري التسويق الإعلامي لأحداث الصراع هناك وتصديرها إلى المناطق البعيدة عن منطقة الصراع، أي على أساس أنها بين الحوثيين والإصلاحيين وإن لم تكن كذلك بالفعل. وظاهر الأمر أن الأطراف الراعية والمنفذة لهذه المخططات ترمي من وراء ذلك إلى ضرب الطرفين لإضعافهما، أو على الأقل ضرب الإصلاح لإضعافه باعتباره الخصم السياسي الذي يريدون استئصاله باعتباره قطب القوة السياسية التي تشكل -بالنسبة لهم- مصدر الخطر، وأنه متى كسر هذا القطب تفرقت القوة المرتبطة به من حلفاء وشركاء وسهل التغلب عليهم. ويبدو هذا المنطق السياسي مستساغا ومبررا لآخرين ينساقون لتنفيذ هذا المخطط، فيما يغفل هؤلاء أن مثل هذه التعبئة تضرب بجذورها في القلوب إلى مناطق أبعد مما يتصورون، وأن هذا الفرز المجتمعي على أسس الأحقاد والكراهية ومختلف المشاعر السلبية لن يكون قابلا للمعالجة أو التحكم كما هو الحال بالنسبة للفرز الآخر القائم على أسس عقلية تتعلق بوجهات النظر واختلاف البرامج السياسية. وإذ تروق هذه الحملة للحوثي، حيث تخلق له عدوا مفترضا، وتوفر له لافتة ومظلة للتوسع وغطاء لممارساته بحق أبناء هذه المناطق، إلا أنه يرتكب خطأ جوهريا، ذلك أن من يريد صناعة خصم يجب عليه أن يصنع خصماً وهمياً، أو يختار -على الأقل- خصماً ضعيفاً ومحصور الحجم ومحدود الخطر وقابلا لأن يظل تحت التحكم، وذلك حتى يكون بمقدوره التغيير الكلي أو الجزئي في استراتيجيته وتعامله معه على غرار سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية حين حددت القاعدة خصما لها، أما أن يصنع لنفسه خصما بقوة الإصلاح وانتشاره وعمقه الاجتماعي، فهو يصنع لنفسه مشكلة مستقبلية لا يملك حلولها، ولا يملك القدرة على التحكم بها والتعامل معها بمرونة بمقتضى ما يستجد في المستقبل. وإلى ذلك، فإن الحوثي وهو يعتمد على إخفاء مآربه وأهدافه السياسية وراء اللافتات والخطاب المذهبي المصادم للمذهبين المعروفين في اليمن من شافعية وزيدية على حد سواء، وإن حرص على الظهور بمظهر المتبني للزيدية، لا يزيد –بذلك- على أن يبني جدارا عازلا يفرضه على نفسه، وسواء شعر بذلك أو لم يشعر، ولن ينتبه لهذا الجدار إلا بعد أن يكون بناؤه مكتملا.. إنه وحلفاءه يعقدون حبلا متينا وينسون مراحل العقد أولا بأول، وهو ما ينزع عنهم القدرة على حل العقدة مستقبلا. تماما كما يفعل الداعمون للحراك المسلح المطالب بالانفصال والرافض لكل ما هو شمالي والمعززون لثقافة ما يعتبرونه تحرير الجنوب من الاستعمار، وما إلى ذلك من المصطلحات والأفكار التي إذا غرست في النفس لم يكن بمقدور أحد قلعها، ولو كان الطرف الذي غرسها نفسه. لقد نجح علي صالح بعد زمن من اندلاع الحراك في أن يخلق قدرا من المشاعر السلبية في الجنوب الرافضة لكل ما هو شمالي، وإن كان هذا على مستوى محدود ومحصور جغرافيا، لكنه أخفق في خلق صراع مسلح جنوبي جنوبي، وظل الحراك ملتزما بالقاعدة التي اختطها لنفسه في لحظات مولده، وهي قاعدة تحريم دم الجنوبي على الجنوبي. وخلال عام واحد منذ التوقيع على المبادرة الخليجية تعددت منابع هذه التعبئة النفسية الشعورية، وتكثفت المواد الإعلامية والسياسية التي تخدمها، فتمكنت من كسر هذه القاعدة، وها نحن نتابع –من ذلك الحين- صورا من اعتداءات الحراك الانفصالي غير السلمي التي يرتكبها ضد جنوبيين ممن لا يوافقونه على مطلب الانفصال. وهكذا تتراكم هذه المشاعر السلبية في نفوس المتلقين للتعبئة الخاطئة المستمرة حتى تغدو في نفس كل متأثر بها عبوة ناسفة يحملها في صدره لا تختلف عن أي عبوة ناسفة يحملها في يده، وإذ يلقيها في أي جمع يصادفه أمامه فإنه –قطعا- لا يستطيع التحكم في مسار شظاياها، ويكون هو ومن وفر له مادة هذه العبوة الناسفة أول الضحايا. [email protected]