"مانديلا" اسم صار له معزوفات في قلوب الشعوب ليس في القارة السوداء فقط، وإنما في أرجاء العالم. أصبح هذا الاسم عنواناً تتلاشى فيه الحدود بين الشعوب وحكامها. غدا هذا الاسم معلماً في الشق المشرق للسياسة، وللنضال دون منّة أو انتظار لثمرات شخصية. الزعيم الأفريقي "نيلسون مانديلا" أغفل مكاسبه الشخصية من نضاله، فكسب وطناً قطف ثمار ذلك النضال، ونال أعلى درجات الكسب من احترام وحب وتبجيل شعبه، وشعوب العالم، وساسته. "مانديلا" في المستشفى مريض ترافقه صلوات، وقلوب، ودموع، وأمنيات أبناء شعب جنوب أفريقيا، السود والبيض، على حد سواء. أبناء بلدته والقريبون من منزله أحاطوا بيته، بأحجار كتبوا عليها أمنياتهم بالشفاء للرجل البالغ من العمر (95) عاماً. كل العالم يتابع أخبار صحة مانديلا، وينتظر بيانات رئاسة جنوب أفريقيا عن صحة هذا القائد الجدير بلقب الزعامة. مرض الزعيم الأفريقي بالالتهاب الرئوي، الذي دخل بسببه المستشفى مراراً، يرجعه الأطباء إلى تبعات إصابته بالسل أثناء سجنه 28 سنة إبان الحكم العنصري في جنوب أفريقيا.. مازال الرجل يدفع إلى اليوم ضريبة الحرية دون أن يمّن على شعبه بكلمة واحدة، لعلك أخي القارئ تذكر كلام القذافي عندما قال إنه أتى والشعب الليبي لا يتجاوز المليون وأصبح بعد أربعة عقود من حكمه يقارب الستة ملايين. هنيئاً للشعب الليبي زعيماً بدرجة دواء فعال للعُقم. غيره من بعض الزعماء العرب لا يفترقون عنه إلا بقدر الدرجة التي يؤلهون عندها أنفسهم، ويتفقون معه في بقائهم طوال سنوات حكمهم يمجدون إنجازاتهم الوهمية، ويذكرّون شعوبهم بمناسبة وبغير مناسبة بنضالاتهم الزائفة. استقى مانديلا قيمه النضالية التي استحق بها حب أفريقيا والعالم، من المهاتما غاندي، الزعيم الهندي الملهم، ومن إيمانه بحق شعبه، وبني جنسه من السود في العيش كبشر، في ظل قيم إنسانية لا تفرق بين إنسان وآخر، بسبب لون، أو عرف، أو معتقد. توفي والد مانديلا وهو في السابعة ليدخل معترك الحياة باكراً بتحمله مسؤولية إعالة أخوته، ولم يوقفه ذلك عن مواصلة دراسته للقانون. بدأ مانديلا معارضة نظام الحكم العنصري وهو في الرابعة والعشرين من عمره بانضمامه إلى "المجلس الأفريقي القومي" مناهضاً السياسات العنصرية للأقلية الحاكمة من البيض تجاه الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا. وظل مانديلا من دعاة المقاومة السلمية حتى 1960 عندما أطلق رجال الحكم العنصري النار على متظاهرين عزل، فلجأ وزعماء المجلس الأفريقي القومي إلى فتح باب المقاومة المسلحة. وتولى مانديلا قيادة الجناح العسكري للمجلس، وحكم عليه عدة مرات بالسجن، آخرها في 1964م ليقضي 28 عاماً. ورفض عروضاً بإطلاقة مقابل وقف المقاومة المسلحة، حتى أطلق سراحه في 11 فبراير 1990. وأصبح في مايو 1994 أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، وعزف عن الترشح عام 1999 واكتفى بفترة رئاسة واحدة بعد أن رسخ دولة حكم الأغلبية. قنع هذا الزعيم بخمس سنوات حكم، بعد نصف قرن نضال، ولعل هذه النقطة هي الفارق والسبب في تحول مانديلا والقلة من أضرابه إلى قادة حقيقيين تحيطهم الشعوب باحترامها وحبها على العكس من زعماء عرب يتآمرون شهوراً لقلب نظام الحكم، وعندما يصلون يصبحون لصقة على الكرسي لعقود، لا تذهب إلا بنزعها بالوفاة، أو القتل، أو النفي، أو السجن، يحفهم حقد ولعنات التاريخ وشعوبهم.