نت/ بقلم / محمد بركة "اقرأ".. هي أول كلمة نزلت من السماء على خاتم الرسل وأفضل من مشى على هذه الأرض؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أنه كان نبيًّا أميًّا لا يقرأ ولا يكتب.. إذن فليس ثمة شك في أن القراءة مرقاة كل إنسان حي إلى الكمال والتفوق، وإذا كان الإنسان من الذين يقرؤون، فليهنئ نفسه وليطالبها بالمزيد. إن وراء كل عظيم – ولا أقصد بالعظمة الامتلاء بماديات الحياة وإنما العظمة الحقيقية التي تجعل صاحبها مَعْلمًا من معالم الرشد الإنساني- حشدًا هائلًا من الكتب التي قرأها وأعمل فيها فكره.. إن المتتبع لسير العظماء الذين صنعوا تاريخ الإنسانية يجد أن شغفهم بالقراءة كان السمة المميزة لطفولتهم ونشأتهم الأولى.. وإن الحضارات التي ظهرت على هذه المعمورة إنما صنعت من الكتب، أي بالقراءة، ودمرت اليابان بأكملها، فيم سمي بالحرب العالمية الثانية، وبعد توقف الحرب بثلاثة أيام، جاء المسئول الياباني الأول وجمع الشعب، وجمع كومة من الحديد المدمر وعمله كجبل، ثم صعد عليه، وقال كلمة واحدة للشعب الياباني: "اقرؤوا" وبعدها.. صنعت حضارة اليابان كما نراها اليوم.. وعندما وصل جيش هتلر في تلك الحرب بالقرب من دولة عربية، أرسل هتلر رسالة إلى قائد الجيش بأن يغير اتجاههم إلى روسيا , والسبب كتبه هتلر في الرسالة: دعوهم فإن هزيمتهم سهلة جدًا، ومن دون حرب، لأنهم شعوب لا تقرأ.. إن القراءة هي الوسيلة الوحيدة التي تصل بالإنسان إلى قمة الوعي والإدراك، وتصنع منه فصيحًا ومتحدثًا وكاتبًا ومفكرًا…والشعوب التي لا تقرأ لا تصنع حضارة أبدًا… ورغم الانفجار المعرفي والمعلوماتي الذي يشهده عالمنا المعاصر ومهما أبحر الناس في فضاء الانترنت والقنوات يبقى الجلوس بين يدي الكتاب له طعمه ومذاقه الخاص، ولا يزال الكتاب يحتل مكانة مرموقة بين مصادر المعرفة.. معارض الكتب هي الحل ويعد الكتاب إنتاجًا وتسويقًا وقراءة أحد أهم المجالات التي تتجلى فيها التنافسية، كما يسجل النشاط الإعلامي المهتم بالكتاب كثافة كبيرة في أواخر العام تكون عادة متوازية مع نشاط اقتصادي لا يقل كثافة في مبيعات الكتب وتسويقها في العواصم الكبرى مثل لندن وباريس ونيويورك وبرلين والقاهرة والرياض والرباط.. ويؤدي هذا النشاط الاستثنائي في الترويج الإعلامي والتسويق إلى حراك ثقافي يتجلى في نقاشات وجدل وكتابات نقدية متخصصة ومراجعات تحاول رسم صورة نقدية عامة لأهم ما نشر من كتب على مدى عام كامل. والحديث هنا حول حركة النشر على مدى عام واحد يتعلق بعشرات آلاف العناوين الجديدة الصادرة في بلد واحد مثل بريطانيا على سبيل المثال. وفي سياق هذا الكم الكبير للكتب المنشورة يمكن تخيل مدى حيوية موسم نهاية العام من الناحية الثقافية والفكرية، فالأمر يتعدى كثافة في النشاط الإعلامي والتسويقي إلى كونه حالة من النشاط الفكري العميق الذي يسعى إلى قراءة ملامح المجتمع الثقافية وآفاق تطلعاته، من خلال رصد وتحليل كمية ونوعية الكتب التي يقرؤها الناس في مجتمع ما. وفي الدول الأوربية يبلغ معدل القراءة للفرد أكبر من نظيره في الدول العربية، وذلك لأسباب متعددة!! ولقد سجل عام 2011 وفقًا للمتابعات تطورًا لظاهرة ملفتة تتجلى في تحول نوعي في إقبال جيل الشباب على القراءة. كانت هذه الظاهرة قد بدأت في الحضور منذ ثلاثة أعوام بعد فترة من الزمن استطاعت فيها مؤسسات صناعة الترفيه الكبرى تكريس واقع افتراضي يقول إن الجيل الشاب لا يقرأ، وأنه استعاض عن الكتاب بوسائل الاتصال والترفيه الإلكترونية. لكن ما أظهرته مواسم الكتاب خلال الأعوام الثلاثة الماضية هو أن شرائح الشباب قد استعادت علاقتها الحقيقية بالكتاب بطريقة ملفتة تجلت في أرقام قياسية في المبيعات والإقبال على معارض الكتب من قبل هذه الشريحة. إن زيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الحالية على الرغم من بعض السلبيات التي كانت موجودة في الدورات السابقة خير دليل على التحول في وعي الأفراد، ومدى اهتمامهم بالكتاب وبالقراءة. هل يشير كل هذا إلى تحول حقيقي في ذائقة الناس؟! أم أن الأمر يتعلق ببساطة بهشاشة ذلك الوهم الذي يقول أن الإنسان المعاصر قد فقد الحاجة إلى الكتاب؟! لا يمكن بالطبع الإجابة على أسئلة كهذه بشكل مطلق، فالموضوع نسبي ويرتبط بعوامل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات. ففي مجتمعات متخلفة وأمية تتعثر فيها مشاريع التنمية الثقافية أمام الفقر والفساد السياسي والاقتصادي تتحول الثقافة إلى جبهة لمعركة غير متكافئة بين اقتصاديات الترفيه العملاقة المتحالفة مع الرأسمال المحلي الجاهل من جهة وبين مشاريع ثقافية تفتقد إلى المقومات المؤسساتية والاقتصادية من جهة أخرى. لكن واقع الكتاب وثقافة القراءة في عالمنا العربي الآن قد يفيد في تحديد أطر عامة لفهم آليات العمل الثقافي في البيئة الكونية المعاصرة التي نحن في دولنا المتخلفة جزء منها، شئنا أم أبينا، وذلك بصرف النظر طبعًا عن طبيعة علاقتنا بتلك البيئة. والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا: هل يجب الاستسلام لما نعتقد أنه حقائق تصف الواقع الثقافي بشكل مطلق ونهائي؟! لماذا يعزف الناس عن القراءة؟ هل يعود ذلك إلى خصائص جوهرية في الشخصية عندنا؟ أم أنه يعود إلى تضافر عوامل موضوعية؟! لو وظفت الأموال والجهود والإمكانات ذاتها التي وظفت في صناعة الترفيه والتلفزيون العربية في مجال التنمية الثقافية هل تنكشف هشاشة الوهم الذي نتعامل معه جميعًا وكأنه حقيقة مطلقة، ذلك الوهم الذي يقول أن الإنسان لدينا يتسم بنفور أصيل من ثقافة القراءة؟! ذلك الإنسان الجاهل الذي يحتاج في شهر واحد فقط إلى 160 مسلسلًا دراميًا، أي ما يقارب 4800 ساعة مشاهدة! ترى من صنع ذلك الإنسان المقيد إلى شاشة التلفزيون بقدرية تراجيدية سوى الإهمال المتعمد والمنهجي للثقافة في العالم العربي؟!