لابد أن نعترف أن أزمة الثقة بين الأطراف السياسية هي التي حركت دوافع الغضب المتفجر في الساحة اليمنية منذ سنوات عديدة، فقد كان الانسداد الذي وصلت إليه قطاعات حساسة مثل الجامعات والمؤسسات العلمية هي المحرك الرئيس لما يجري اليوم، بدليل أن المطالب المتمثلة بزيادة الأجور وتوفير فرص العمل الكريم أو تغيير بعض القيادات لم ترفع، ورفع شعار "إسقاط النظام". ولا أبالغ إذا قلت ان المرحلة ستشهد مأزقاً حاداً أمام الذي سيقود اليمن في المرحلة القادمة أياً كان، لأنه سيكون أمام رفع سقف المطالب الفئوية والجهوية والمدنية التي لن تستوعبها الإمكانات المتاحة، كما أن شمولية دعوات التغيير ستجعل البلد ينزلق إلى مخاطر المجهول، نتيجة طغيان لغة العاطفة على لغة العقل وتغليب الأغراض النفعية على المصالح الوطنية. غياب دور الجامعات أعاق التفاعل بين الأجيال فانقطعت المعرفة وغاب تقاسم المسئولية على نحو متوازن بين الأساتذة والطلاب، مما أثر على العمل السياسي والفكري، فتحول الحراك السياسي إلى صراع داخل الجامعة ومثل تهديداً مباشراً للمعرفة. وبسبب هذا الانقطاع المعرفي ركزنا على الجغرافيا وسعينا إلى تمزيق الجغرافيا، وأهملنا الديمغرافيا والسكان، فتمزيق الجغرافيا سهل جداً، لكن بناء الديمغرافيا يحتاج إلى معايير التعليم والصحة، وهذا يحتاج إلى الانتشار في المدن والقرى ويحتاج إلى عمل شاق وجهد فائق. ولست بحاجة إلى القول إننا اليوم أمام ثورة لا ندري متى تنتهي ونعود إلى العمل، فبطولة الثورة تظهر في عملية الهدم والتدمير في كل الثورات وذلك أمر سهل للغاية لكن عظمة الثورات تقوم على البناء وهي المهمة الأعظم والأبقى، لكنها مسألة صعبة، لأنها لا تحتاج إلى هتافات وإنما تحتاج إلى تفكير عميق وهادئ. استطيع القول إننا جميعاً نريد مجتمعاً حراً ومتقدماً ومدنياً وحديثاً ليس بالقول بل بالفعل. ولن نستطيع أن نتقدم مالم تكن اليمن مجتمعاً آخر مدنياً وحديثاً وديمقراطياً ومنفتحاً على العالم. إن ما يجري من استقالات من كثيرين من الذين كانوا جزءاً من هذا النظام، يعد من جانب فنون التفاوض والوساطة خاطئاً، والأخطر أنه استند إلى قراءة خاطئة للواقع، فعلى سبيل المثال انشقاق علي محسن ربما يضعف الجانب النفسي للسبعة الألوية في صعدة بكامل عتادها فيتركون المعسكرات لقمة سائغة أمام الحوثي فيستولي عليها وحينها سيكون قادراً على إسقاط صنعاء وسيكون علي محسن أحد هذه الأهداف بل وأولها. نحن مع ثورة الشباب التي جاءت رافضة للفساد وحاملة للقضية الديمقراطية، والرفع بها من المستوى النظري إلى المستوى العملي، وبالنسبة لي فقد كان الموقف الذي اتخذته دوماً كتابة وقولاً، وفي مناسبات متعددة، كان موقفي مع الدولة العلمانية التي تقوم على إرادة الشعب وتستوعب الجميع في إطارها المدني وتحقق المواطنة المتساوية، وطالبت بتغيير الدستور وليس تعديله لكي يكون لدينا دستور متناسق ومدني حديث، وإذا أردنا مستقبلاً آمناً مستقراً علينا أن نحترم الدستور القائم حتى تكون التقاليد الدستورية هي التي تحكم عملية الانتقال السلمي للسلطة. وعلينا ألا نحرق المراحل حتى لا تحرقنا معها، فنحن اليوم أمام تغيير حقيقي، ليس على مستوى اليمن فحسب، وإنما على مستوى المنطقة العربية، يتمثل هذا التغيير بإسقاط التوريث الذي انشغلت به قوى سياسية وإعلامية عديدة لدرجة أنه كان البند الأساسي على أجندتها. نحن اليوم أمام فكرة محورية متمثلة في سباق البشر مع الزمن، وهي حالة عالمية وليست يمنية خاصة، نحن إذن أمام انتقال من جيل إلى آخر، وهذا الجيل يحمل معه عناصر عديدة للتغيير، لقد انتفض هذا الجيل بعد أن انحسر نشاط المعارضة السياسية التقليدية، وربما كان للضعف الذي مر به الحزب الحاكم، حتى أصبحت الحياة السياسية قائمة على عدم التوازن بين حزب قائد مهيمن له أغلبية برلمانية، بينما الأحزاب الأخرى تراجع تمثيلها ودورها. ولعل مأخذي على الثورة التي تجري اليوم أن الشباب بوصفهم قلب هذه الثورة، أنهم مازالوا عاجزين تماماً عن وضع إطار تنظيمي يسمح بتحويل أفكار الثورة إلى إطار عمل يمكن السعي لتنفيذه أو التفاوض حوله أو فرضه. فهناك العديد من الحركات الشبابية تتصرف كأنها جماعات على الفيس بوك يعيش كل منها في خيمة، مثل هذا الحال لا يقيم دولة أو يقود خطواتها أو يدفعها حتى إلى نظام ديمقراطي ناضج. يبدو أن الشعار المتفق عليه هو إسقاط النظام، لكن رافعيه عاجزون تماماً عن تحديد ما سوف يأتي بعده، وإذا ظلت الحركة الشبابية على عجزها التنظيمي، فإنها ستضطر لأن تعتمد على أطراف سياسية أخرى، ستعمل هذه الأطراف على ابتلاعها أو وضعها دروعاً للوصول على أجسادها إلى مآربها. نحن أمام فرصة تاريخية للانتقال نحو الديمقراطية وتحقيق التقدم الشامل الذي يكفل الديمقراطية في إطار شرعي، أو السير في طريق آخر قد يكون شكلاً من أشكال الفوضى أو التمهيد لأنواع مختلفة من الفاشية.