حذرنا مراراً في السابق بضرورة الابتعاد عن العمل العسكري واعتماد لغة الحوار والعقل في علاج الأزمة بين الحوثيين والحكومة اليمنية, لكن يبدو أن لا حياة لمن تنادي! فالإصرار و«المراهنة» على حسم المعركة «عسكرياً», أثبت بعد مرور ثلاثة أشهر من تجدد الاشتباكات بين الطرفين, فشله الذريع سواء على صعيد إنهاء الحرب أو على صعيد الأعداد الكبيرة للقتلى والجرحى والنازحين, حيث لا تزال حالة الحرب المفتوحة التي يعيشها اليمن منذ العام 2004 مستمرة مع استمرار المواجهات المسلحة بين «الحوثيين»، والقوات الحكومية اليمنية! كيف بدأت حركة الحوثيين؟ تعود «حركة الحوثيين» في اليمن إلى مؤسسها الراحل حسين بدر الدين الحوثي، عضو البرلمان اليمني السابق، والذي قضى في المواجهات الدامية التي جرت بين أنصاره والقوات الحكومية في صيف عام 2004! حسين الحوثي كان قد قرر في العام 1997 اعتزال العمل السياسي، وعدم ترشيح نفسه من جديد لعضوية البرلمان، إذ قام بتأسيس تيار ثقافي ديني أطلق عليه اسم «حركة الشباب المؤمن»، استطاع من خلاله استقطاب قطاعات واسعة من الشباب والمثقفين، خصوصاً من أتباع المذهب الزيدي، والذين تقدر نسبتهم، إلى إجمالي عدد السكان في اليمن، بنحو 29 في المئة. واستمر حسين الحوثي في العمل الثقافي والديني حتى العام 2003، والذي شهد بداية تحوّل استراتيجي في «حركة الشباب المؤمن» من كونها حركة ثقافية دينية إلى حركة سياسية! وجاء ذلك التحول تحديداً بعد الغزو الأميركي للعراق، حين أعلن حسين الحوثي معارضته العلنية للاحتلال، وقام برفع شعار «الموت لأميركا» و«الموت لإسرائيل» حتى أخذت هذه الشعارات بالانتشار في جميع أرجاء محافظة صعده في الشمال (معقل الحوثيين) والعديد من المدن اليمنية الأخرى! هنا كانت نقطة التحول في علاقة حسين الحوثي مع الدولة التي أخذت بمراقبة ورصد تحركات الحوثي وأتباعه، حتى أنها، أي الدولة، قد دخلت في حوار طويل مع حسين الحوثي لإقناعه بالعدول عن ترديد شعارات «الموت لأميركا»، نظراً إلى الحرج الشديد الذي تسببه تلك الشعارات على العلاقات اليمنية الأميركية! إلا أن الحوثي قد امتنع وأعلن رفضه التراجع عن ترديد تلك الشعارات، ما حدا بالسلطات الرسمية إلى استخدام الأسلوب العسكري لقمع «حركة الحوثيين» وسط أجواء محكمة من التعتيم الإعلامي والحقائق الكثيرة التي غابت عن الرأي العام! هنا اندلعت أولى المواجهات الدامية بين القوات الحكومية، وأتباع الحوثي، والتي خلفت وراءها آلاف القتلى والجرحى من الطرفين، والتي انتهت بمصرع حسين الحوثي! حينها أعلنت الحكومة اليمنية نجاح خطتها العسكرية وقضاءها على «حركة الحوثيين» بالضربة القاضية, حسب تعبيرها! إلا أن رحى المواجهات العسكرية الدامية بين القوات الحكومية وأنصار حسين الحوثي عادت أكثر ضراوة في مارس 2005، عندما دخل رجل الدين البارز بدر الدين الحوثي، الأب، أحد أبرز المرجعيات الفقهية للطائفة الزيدية في اليمن، على خط المواجهة مع السلطة، بعد أن التزم الصمت إبان المواجهات الدامية بين نجله والقوات الحكومية، إذ أعلن عن تأييده الكامل ودعمه المطلق لحركة أنصار ابنه الراحل! وبذلك عادت رحى الحرب الضروس بين القوات الحكومية، و«حركة الحوثيين» إلى المربع الأول بعد فشل جميع مساعي التهدئة، وإصرار الحكومة على اتباع المنهج العسكري نفسه الذي اتبعته مع الحوثي الابن! لكن الحكومة عادت وأعلنت بعد مضي نحو شهرين من الحرب الثانية بأنها قد قضت نهائياً هذه المرة على «حركة الحوثيين»! في نوفمبر العام 2005 تجددت الاشتباكات مرة ثالثة بين «الحوثيين»، والقوات الحكومية، ولكن بأسلوب مغاير هذه المرة، وهو حرب العصابات! الأمر الذي أدى إلى إطالة أمد الحرب الثالثة، رغم موقف البرلمان اليمني الذي وافق على إطلاق العنان ليد الحكومة لاستخدام الحل العسكري للقضاء على «حركة الحوثيين»! بعد ذلك كانت العلاقة بين «الحوثيين»، والحكومة اليمنية أشبه بحالة اللاسلم واللا حرب! إذ إنه رغم أن الموقف بينهما لم يتفجر سريعاً، إلا أن حال التوتر المشوب بالحذر كانت السمة الأبرز بين طرفي النزاع، خصوصاً بعد دخول عامل جديد على خط المواجهة بين «الحوثيين»، والحكومة اليمنية، وهو العامل الطائفي الذي حاولت من خلاله بعض الأطراف الزج فيه بقوة لتضييق الخناق أكثر على «حركة الحوثيين» من خلال تأليب الجماعات المتطرفة ضد المذهب الذي ينتمي إليه الحوثيون! في العام 2007 وتحديداً في شهر مارس كانت الأمور قد وصلت إلى طريق مسدود، إذ تجددت الاشتباكات من جديد بين «الحوثيين»، والحكومة اليمنية في الحرب الرابعة، التي كانت الأشرس والأوسع بين الحروب الثلاثة السابقة، نظراً إلى عدد القتلى والجرحى من الفريقين من جانب، ومن جانب آخر كون رقعة الحرب قد توسعت لتشمل محافظة عمران إلى جانب محافظة صعدة! فقد استمرت الحرب الرابعة حتى مايو من العام نفسه إلى أن دخلت قطر على خط المواجهة بين الحكومة اليمنية، و«الحوثيين» وأنهت بذلك الجولة الرابعة من المواجهات الدامية بعد الوساطة التي قامت بها بين طرفي النزاع، توصل الجميع على أثرها إلى إبرام «اتفاق الدوحة» الذي ألزم الأطراف المتناحرة إلى وقف إطلاق النار فوراً، وطالب الدولة بإعادة بناء مناطق وقرى الحوثيين، كما دعا الحوثيين إلى التخلي عن جميع أسلحتهم. وظلت المفاوضات بين الحكومة اليمنية، وقادة الحوثيين مستمرة برعاية قطر لضمان تنفيذ بنود «اتفاق الدوحة»، إلا أن المفاوضات كانت قد وصلت إلى طريق مسدود في نوفمبر 2007 وعلى اثرها قام الوفد القطري بالانسحاب من عملية المفاوضات. لكن الدوحة، وكما عودتنا دائماً أن تكون حمامة السلام العربية، بذلت جهودا إضافية لإحلال السلام والاستقرار في اليمن والتي توجتها ب «اتفاق الدوحة الثاني»، الذي تم في قطر مطلع فبراير من العام الماضي، وخلص إلى الدعوة إلى تفعيل الاتفاق الأول. لكن يبدو أن بعض الأطراف داخل اليمن وبعض الأطراف الإقليمية والدولية لا تريد لليمن السعيد أن يهنأ! فعملت على تأليب الحكومة اليمنية ضد «الحوثيين» من خلال اتباع طرق استفزازية أدت إلى اندلاع رحى الحرب الخامسة التي وصفها المراقبون آنذاك بأنها الأشرس والأعنف بين جميع المعارك السابقة! فالحكومة اليمنية أدخلت على خط المواجهة هذه المرة قوات الجيش لتنضم إلى قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة حيث ان قوات الجيش لم تشارك من قبل في المعارك السابقة! أما «الحوثيون» فإنهم ادعوا أن قوات من الكوماندوس الأميركية قد شاركت في الحرب الخامسة إلى جانب القوات الحكومية! إلى جانب هذا وذاك، فقد شهدت الحرب الخامسة استخداما نوعيا للأسلحة والمعدات الثقيلة ناهيك عن اتساع نوعي أيضاً في رقعة المواجهات بين «الحوثيين»، والقوات الحكومية بعد أن وصلت إلى أعتاب العاصمة اليمنية صنعاء، الأمر الذي عكس دلالات كبيرة! بعد الحرب الخامسة التي استمرت أسابيع عدة, وبعد تدخل العديد من الأطراف, عادت من جديد حالة اللاسلم واللاحرب بين الحكومة اليمنية والحوثيين, واستمرت على هذا المنوال لأشهر عدة, إلا أن سرعان ما عاد الجميع من جديد إلى المربع الأول بعد اندلاع الحرب السادسة قبل نحو ثلاثة أشهر والتي مازالت مستمرة حتى هذه اللحظة! وكما قد أثبتت المرات السابقة, أنه في كل مرة تتجدد المواجهات العسكرية بين الحكومة اليمنية والحوثيين, تكون المواجهة الأحدث هي الأشرس بالنظر إلى ازدياد حجم ونوعية الآليات العسكرية المستخدمة ومن جهة ارتفاع عدد القتلى والجرحى وكذلك من جهة الأعداد الكبيرة للمهجرين والنازحين! في الحرب السادسة أيضاً هناك عاملان إضافيان دخلا على خط الحرب الضروس الدائرة بين الحكومة اليمنية والحوثيين وهو ما ساهم في تفاقم وتعقيد المشكلة! العامل الأول التطور الذي تشهده الحدود اليمنية السعودية, والعامل الثاني وهو ما قامت به الحكومة اليمنية وبشكل صارخ بالزج بالورقة المذهبية في صراعها الداخلي والإصرار على إعطاء صبغة طائفية لهذا الصراع! لا خلاف على ان المأزق الذي تعيشه الحكومة اليمنية كبير بل وكبير جداً بعكس ما تحاول بعض وسائل الإعلام العربية تصويره, والدليل الواضح للعيان على هذا «المأزق» هو عجز الحكومة اليمنية حسم المعركة على أرض الواقع خصوصاً بعد مرور ثلاثة أشهر على اندلاعها, لكن هذا العجز والمأزق لا يمكن تبريره بأي حال من الأحوال بما قامت به الحكومة اليمنية قبل أيام عدة، سواء تلميحاً أو تصريحاً، بإعطاء مشاكلها الداخلية أبعادا مذهبية وطائفية، والزج عبر أسلوب الغمز واللمز إلى «الشيعة» وتحديداً في دول مجلس التعاون بأنهم يدعمون ويساندون الحوثيين في اليمن! هذا الأسلوب الرخيص للهروب من المعركة ومحاولة تأليب شعوب المنطقة بعضها على بعض عبر اللعب بالورقة المذهبية والطائفية, بكل تأكيد لن يخدم أحدا وستكون المنطقة، لا سمح الله، بأسرها ضحية اللعب بهذا الورقة الشيطانية! ختاماً... نتمنى بقلوب صادقة ونوايا حسنة (لا نحتاج معها شهادة من سفير هنا أو مباركة من وزير هناك) بأن تتوقف المعارك الدموية في اليمن, وأن يعود الطرفان إلى طاولة الحوار وإلى الاحتكام إلى العقل بعيداً عن لغة السلاح والتخوين, لأن اتساع واستمرار أمد هذه الحرب لن يكون لا في صالح اليمن ولا في صالح المنطقة خصوصاً وأن اعتماد الأسلوب العسكري للقضاء على «حركة الحوثيين» قد أثبت فشله الذريع طوال الأعوام الماضية، بل ان الإفراط في استخدام القوة قد ساهم في اتساع دائرة المواجهات العسكرية وليس العكس، وهذا الأسلوب هو الذي قد وضع اليمن على حافة الهاوية! وعليه، إن اليمن اليوم في حاجة ماسة إلى تضافر جميع الجهود العربية والإسلامية, الشعبية والرسمية, الصادقة والمخلصة لانتشاله والمنطقة بأسرها من الوقوع في أتون صراع طائفي بغيض ستكون المنطقة جميعها بلا استثناء... الخاسر الأكبر!