القصة كما هو الحال في كل القصص من هذا النوع لا تعرف لها نقطة بداية علي وجه التحديد, والمغرمون بعلم النفس ربما يجدون البداية ساعة مولد عمر فاروق عبد المطلب حينما جاء ترتيبه السادس عشر بين أبناء, وبنات علي ما أظن, أب نيجيري موسر له زوجتان ويعمل بالبنوك وأعمال أخري تجعله قادرا علي إرسال أولاده إلي الخارج طلبا للعلم أو الثروة. وجاء نصيب فتانا البالغ من العمر الآن23 عاما أن يدرس الهندسة الميكانيكية في لندن. هنا سوف نترك علماء النفس الذين قد يرون في صاحبنا حالة من الاغتراب والوحدة التي يجد الإنسان نفسه فيها عندما لا يلقي اهتماما يذكر في أسرة كبيرة بهذا العدد; ونلجأ إلي علماء الاجتماع حيث يبدأ بطل القصة في الاختلاط بالجماعات الراديكالية في لندن التي يبدو أنها أصبحت لديها القدرة علي إنتاج الإرهابيين بكفاءة أعلي مما تستطيعه كل الدول العربية والإسلامية. ولكن مساجد لندن هنا لا تكفي لإنتاج الإرهابي ما لم تكن عين تنظيم إرهابي مثل' القاعدة' ساهرة علي اصطياد وتجنيد العناصر الإرهابية سواء من المساجد اللندنية أو من علي شبكات الإنترنت, وكان ذلك هو ما حدث تماما مع عمر فاروق عبد المطلب عندما تم إرساله إلي اليمن وفق الرواية الأولي لكي يستكمل فصوله في الراديكالية الدينية علي يد شيخ غامض, أما تدريبه العسكري والمهني فليس في الهندسة وإنما في القتل فإنه جري من خلال معامل ومعسكرات تدريب. الفتي وفق كل المعايير سواء كانت النفسية أو الاجتماعية حالة مثالية للإرهاب, وما نقص لديه تولي السياسيون والعسكريون استكماله, فهو من أسرة موسرة قادرة علي تحمل نفقات تنقلاته حتي قرب المرحلة الأخيرة لتنفيذ المهمة. وهو حاصل علي تعليم عال في الهندسة الميكانيكية, ومن لندن أيضا, ومن ثم فإن لغته الإنجليزية لا تشوبها شائبة, فضلا عن قدرة علي التواصل والتخاطب في مطارات عالمية مختلفة; وببساطة لا يختلف كثيرا عمن عرفوا في الماضي باسم' خلية هامبورج' التي فوضها أسامة بن لادن لكي تقود عمليات الهجوم علي الولاياتالمتحدة يوم الحادي عشر من سبتمبر2001. أما الجديد هذه المرة فقد كان سلاحا جديدا هو ما يعرف باختصار تحت اسم' بنتPENT' أوPentaerythritol وهو نوع من المفرقعات التي يسهل إخفاؤها في الملابس الداخلية لشاب وسيم يتحدث الإنجليزية بطلاقة, ولديه اعتقاد جازم بأن العالم سوف يكون أفضل حالا, وأنه سوف يدخل الجنة فورا, إذا نجح في تفجير طائرة بركابها فوق مدينة أمريكية. وكان ذلك هو ما فعله عمر فاروق عبد المطلب عندما دخل في مطار شيبول بمدينة أمستردام الهولندية إلي طائرة شركة نورث ويست الأمريكية علي الرحلة253 المتجهة إلي ديترويت في صباح الخامس والعشرين من ديسمبر, يوم يحتفل العالم المسيحي بأعياد الميلاد, الكريسماس. قبل ذلك بأيام كان فتانا قد وصل إلي صنعاء تحت ستار تعلم اللغة العربية لكي يتلقي دروسه الدينية, ومعها تعلم كيف ينجح في تثبيت القنبلة الجديدة في لباسه الداخلي, دخل بها بالفعل إلي الطائرة المتجهة من صنعاء إلي أمستردام ومنها إلي مقصده. ولا شك في أن صانعيه كان لديهم يقين كبير من نجاحه في المهمة حيث تم تجريب السلاح من قبل في الأمير السعودي محمد بن نايف مسئول المخابرات السعودية لمحاربة الإرهاب, ورغم أن الإرهابي الذي فجرها تعجل ومات في التفجير, وأصيب الأمير إصابة بسيطة, فقد ثبت لدي' القاعدة' أن السلاح الجديد يستطيع اختراق حواجز كثيرة. وقد كان, وأصبح عمر فاروق عبد المطلب علي مرمي حجر من هدفه مدينة ديترويت التي أنشئت عام1701 وبلغ عدد سكانها قرابة المليون نسمة وتعد حتي الآن قلعة صناعة السيارات الأمريكية. وليس معلوما علي وجه اليقين ما الذي دار في ذهن فتانا بعد أن لاحت المدينة في الأفق عندما بدأت الطائرة من طراز330AIRBUS حاملة278 راكبا ومعهم11 طاقم الطائرة في الهبوط; وعما إذا كان يتخيل كيف سيتطاير جسد كل هؤلاء في الهواء ومعهم العدد الذي سيحترق علي الأرض, أو تساءل عن المسلمين أو المؤمنين منهم, أو أنه كان مشغولا بقراءة الأوردة والآيات التي علمها له صانعوه وتبرر قتل الأبرياء. كل ذلك لا نعرفه, وربما تتمكن الأجهزة الأمريكية التي تحقق معه من استخلاص ما دار في عقله, ولكن المؤكد أنه كان علي درجة من الارتباك حيث اختلط عليه الأمر ساعة حقن المادة المتفجرة بمادة كيماوية تكفي بعد لحظات لتفجيرها لتخلق هوة في الطائرة تكفي لانفجارها وسقوطها من حالق كرة ملتهبة من النار علي رأس المدينة المنشغلة بشجرة عيد الميلاد وهدايا بابا نويل. ما حدث أن بعضا من الدخان خرج من تحت الغطاء الذي حاول فيه أن يخفي جريمته, ولاحظه ركاب يقظون, فكان الصراخ وجاء طاقم الطائرة بما يطفيء ويبرد القنبلة حتي انتهي خطرها. وتم القبض علي عمر فاروق عبد المطلب الذي توجته مواقع القاعدة بطلا نجح في اختراق كل موانع الطغاة سواء كانت البشرية أو التكنولوجية. وهكذا أضيفت واقعة أخري لسلسة من الوقائع التي تعيد إنتاج أحداث الحادي عشر من سبتمبر مرة أخري كان فيها واقعة' فورت هود' التي قام فيها ضابط دكتور- نضال مالك حسن- من أصول أردنية فلسطينية بإطلاق النار علي زملائه من الجنود والضباط الأمريكيين فقتل13 وجرح31 في قاعدة عسكرية في تكساس; وواقعة اكتشاف خمسة من الأمريكيين المسلمين في باكستان يستعدون للجهاد في الولاياتالمتحدة, وتورط أفراد مسلمين أيضا داخل الأراضي الأمريكية في تدبير عمليات سواء لإرسال أفراد إلي باكستان أو في إطلاق النار علي جنود أمريكيين أو التجهيز لعمليات إرهابية متنوعة. القصة بالطبع لها جوانب متنوعة, ولو كانت فيلما سينمائيا لظهرت فيه الأجهزة الأمريكية في صورة مزرية, ولكن ما جري للسلطات الأمريكية ليس ما يهمنا, ولكن ما ينبغي التركيز عليه هو أنه رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها تنظيم القاعدة في العراق وأفغانستان فإنه ليس فقط حيا يرزق بل إنه أكثر تنظيما واستعدادا في اليمن والصومال والسودان. وفي المستقبل القريب, وعلي ضوء الشواهد فإن اليمن قد تكون المحطة الرئيسية للتنظيم الذي يستفيد بمهارة من التناقض بين إيران والدول العربية, فرغم التشدد السني المعروف عن القاعدة, إلا أنه لا يمانع من عقد تحالفات مؤقتة مع جماعات شيعية راديكالية هي الأخري سواء في لبنان أو اليمن, إلا أن غزة سوف تظل حلم التنظيم الرئيسي لأن القضية الفلسطينية كانت دائما واحدة من الأدوات الرئيسية للتعبئة والدعاية, ومن ثم فإن زرع تنظيم' جيش الإسلام' داخل القطاع سوف يكون موضع الاهتمام الأكبر ليس فقط للقاعدة, وإنما كذلك لكل المهتمين بالأحداث الجارية الآن علي الحدود المصرية مع غزة. ومن المدهش أن طائفة من المصريين استنكرت الحديث عن حماية الأمن القومي المصري وهي تعلم تماما أن غزة قد باتت الآن واحدة من مناطق القاعدة النشيطة التي ساهمت في العمليات الإرهابية في سيناء. وببساطة فإن عملية عمر فاروق عبد المطلب لم تكن عملية أخري موجهة إلي الولاياتالمتحدة وجب استنكارها, وإنما هي جزء من شبكة من العمليات التي لا يوجد شك في أنها سوف توجه إلي دول عربية كلما وجد التنظيم فرصة سانحة لذلك. وهنا, ربما كانت القضية التي ينبغي لنا جميعا الانشغال بها هي الكيفية التي يتم بها' غسيل المخ' لمسلمين أتقياء ومن أصحاب المعرفة والعلم بحيث يكون لديهم الاستعداد لقتل العشرات من الأبرياء قتلا جماعيا واعتبار ذلك وسيلة للشهادة والتقرب إلي الله. وللحق فإنه لا توجد إجابة جاهزة, ولكن حتي يحدث ذلك فربما آن الأوان لكي يأخذ الكتاب والمفكرون والحركات السياسية المختلفة قضية الأمن القومي المصري بجدية أكبر مما أخذته بها حتي الآن, فهو لا يعني حصار غزة بحال, ولا يعني التخلي عن التزامات مصر العربية, ولا يعني التخلص من دور مصر الإقليمي, ولا يعني تجاهل أوضاع إنسانية صعبة لأهل غزة, وإنما يعني حماية أمن مصر والمصريين الذي هو الواجب الأول لكل القيادات السياسية. وبصراحة لا يوجد مجال للاستهتار أو التهوين, ومن لا يعرف فليقرأ قصة عمر فاروق عبد المطلب.