عندما تختار رصاصات الضغينة شخصية سياسية مرموقة مثل جار الله عمر، فلا بد أنه وجد توليفة مبدعة لقيادة معركة الوطن ضد الديكتاتورية والفساد والارهاب. جارالله لم يكن مجرد ناشط سياسي يمني فحسب بل كان ذلك الشخص الذي تكلم بلغة الشعب ورفع حب الوطن سلاحا في وجه الاعداء فأصبح تأثيره مصدر قلق لقوى الظلام ، رهينة قرار سياسي يقضي على ما تبقى من أحلام شعبه بغد أفضل . وامام مرأى ومسمع العالم ، اخترق الرصاص جسد جار الله الهزيل ، ليسكت كلمات الحق حتى إشعار آخر. أرسى جارالله مفاهيم المعارضة القوية وأسس لفكر الحوار الدائم . زينت الشجاعة صدره في العديد من المواقف الصعبة . كان معنيا بالسلطة المعنوية التي هي اقوى وأكثر تأثيرا في الناس . لم يعترف بغير الصدق والصراحة للوصول الى حلول وقواسم مشتركة . كان الوطن حبه وهمه الوحيد ، فمات داعيا للإصلاح ونبذ العنف ومحاربة الفساد. ولد جار الله محمد عمر الكهالي عام 1942في قرية كهال عمار في محافظة إب . توفي والده بعد سته اشهر من ولادته، حيث أصيب بمرض مفاجئ . ترك له إرثا من الديون ، كان على والدته ان تعمل في مجال التطريز لتسديدها. تلقى تعليمه الابتدائي في كتاب القرية ثم في المدرسة الشمسية في مدينة ذمار . أنتقل جارالله الى صنعاء حيث التحق بالمدرسة العلمية . اندلعت الثورة الجمهورية عام 1962، وشارك جارالله في العديد من المظاهرات الطلابية المؤيدة للثورة ، وبعد الاطاحة بالنظام الملكي وقيام الجمهورية اليمنية أنتسب جارالله الى كلية الشرطة، بدأت رحلته في المعترك السياسي في عام 1968حيث شارك في تأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ، وأصبح عضوا في اللجنة المركزية . في العام نفسه شهدت اليمن معارك بين مؤيدي الثورة ومعارضيها . وكان جارالله ضمن مجموعة من المقاتلين خاضوا معركة شرسة في مطار الرحبة وحققوا نصرا كبيرا . وبعد حدوث شقاق بين الجمهوريين واندلاع احداث اغسطس تم اعتقاله ، وبقي في السجن ما يزيد عن ثلاث سنوات . بعد الافراج عنه غادر الى عدن واستقر فيها الى ان شارك في عام 1978 بتأسيس الحزب الاشتراكي اليمني وعين عضوا في مكتبه السياسي وكان مسؤولا عن نشاط الشطر الشمالي حيث أدار العديد من الحوارات البناءة واتي أفضت الى قيام الوحدة بين الشطرين ز وبعد ثلاث سنوات اصبح وزيرا للثقافة والسياحة. كان لجارالله مساهمات فاعلة في مجال الأدب، فقد كان عضوا في اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين .كما ساهم في كتابة تاريخ الثورة اليمنية من خلال الندوات والمقالات والدراسات التي قدمها ، وكتاب عن حصار السبعين يوما. مزجت كتاباته بين ثقافة الديمقراطية والثقافة الإسلامية بوجهها المتسامح، كما ساهم في تأسيس المؤتمر القومي العربي. هذا النشاط الأدبي والثقافي جعله حاضراً باستمرار في تلك الحوارات الهادفة إلى لم الشمل ونبذ الخلاف، إذ كان مفاوضاً سياسياً دؤوباً، تميز بالجرأة والصراحة. وحظيت معظم مبادراته بنجاح كبير سعى جاهداً لنزع فتيل الحرب بين الأحزاب السياسية المتصارعة في اليمن. فعندما دب الخلاف بين الحزب الاشتراكي وشريكيه في الحكم حزب "المؤتمر الشعبي العام"، وحزب "التجمع اليمني للإصلاح" قاد المبادرة لتقريب وجهات النظر، لكن اندلاع (حرب الانفصال)، أدت إلى فشل الحوار، ولجوء قيادات الحزب الاشتراكي خارج اليمن. أخيراً استطاع جارالله أن يؤسس مجلساً للتنسيق بين الأحزاب، وصاغ وثيقة "العهد والاتفاق" وانتخب أميناً عاماً مساعداً للحزب في دورته الثانية عام 2000. وفي بث مباشر، يبدأ المشهد التالي: الزمان: يوم السبت الثامن والعشرون من ديسمبر ام 2002. المكان: صالة 22 مايو المغلقة بمدينة الثورة الرياضية في صنعاء. الحدث: المؤتمر العام الثالث لحزب التجمع اليمني للإصلاح. تقدم جارالله عمر إلى المنصة ليلقي كلمته النارية كالعادة، رج التصفيق جدران القاعة، وعلت الهتافات. وقد كانت القاعة تضم ممثلين عن الأحزاب اليمنية ومن ضمنها حزب "تجمع الإصلاح الإسلامي" الذي كان يسعى إلى تحسين العلاقات مع الحزب الاشتراكي. أنهى جارالله خطابه قائلاً: "إن أنظار كل أبناء اليمن متجهة إلى هذه القاعة، وهي تتطلع إليكم واثقين بأنكم ستخرجون في مؤتمركم هذا بكل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وبمزيد من التجديد والتأصيل النظري الشرعي للحرية والديمقراطية ومناهضة الاستبداد". توجه إلى ركن من أركان القاعة حيث كانت تنتظره إحدى المحطات الفضائية لإجراء لقاء فجأة سمع الحضور صوت الرصاص، ووسط ذهول الجميع وقع جارالله على الأرض متأثراً بجراحه. تم نقله إلى المستشفى لكنه لفظ أنفاسه الأخيرة، وأسدل الستار على قصة حب بين رجل شجاع ووطن. ألقي القبض على الجاني المدعو علي جارالله، والذي تبين أنه ينتمي لإحدى التيارات السلفية، ويكن العداء لكلا الحزبين الاشتراكي وحزب الإصلاح وقيل حينها إنه كان معتقلاً لدى الأمن السياسي عام 2000، بعد أن ألقى خطبة عدائية متشددة ضد النظام في أحد الجوامع. هذه الرواية لم تمر مرور الكرام، فقضايا الاغتيال غالباً ما تورط أطرافاً عديدة في سيناريوهات ونظريات تلعب فيها المؤامرة دور البطولة. في البداية اعتقد الكثيرون بأن الدافع لدى الجاني، هو التشدد تجاه توجهات جارالله الليبرالية، فقد سبق وأن اتهمه بالكفر والزندقة. ولكن بعد اغتيال جارالله بفترة وجيزة نشطت وسائل الإعلام في ترويج سيناريو آخر، وهو أن قرار الاغتيال خرج من أروقة حزب الإصلاح نفسه. بالطبع فإن عداوة مسبقة بين الإصلاح وبين الحزب الاشتراكي، كانت كفيلة بأن تضع علامات استفهام حول هذا السيناريو المحتمل. في التوقيت نفسه سرت أقاويل بين العامة مفادها أن جارالله تلقى تهديداً مباشراً من الرئيس اليمني آنذاك. وبالطبع فقد كان هذا السيناريو هو الأدسم والأكثر تشويقاً وبخاصة عند أقرباء جارالله ومؤيديه. فتم الربط بشكل واضح بين وجود الجاني في معتقلات الأمن، وبين توجيهه لتصفية جارالله، العدو اللدود للنظام اليمني، والتهديد السياسي الكبير الذي يهز أركانه. وقد أكد بعض رفاق جارالله أنهم علموا بتهديد رئيس الجمهورية له. ويمكن الربط بين هذه السيناريوهات من خلال ترتيب بعض الأحداث. منفذ العملية شاب سلفي كان ينتمي لجامعة الإيمان التي يرعاها حزب الإصلاح. حزب الإصلاح حصد نتائج غير متوقعة في انتخابات السلطة المحلية عام 2001، وهو المستفيد الأول من التكتل الوطني الذي شكلته أحزاب المعارضة. حزب الإصلاح، يسعى للتكاتف مع الحزب الاشتراكي. في النهاية سقط جارالله في شباك التآمر على حياته، وتم إعدام الشاهد الوحيد على العقل المدبر لاغتياله. ورغم أن جهات عديدة حاولت فك الأحجية، وإزاحة الستار عن الوقائع والحقائق المبهمة، إلا أنها بقيت مترابطة ومتواصلة بشكل يؤكد أن ما حدث لم يكن مجرد محاولة لإسكات رجل حر فحسب، بل إنها مؤامرة متعددة الأطراف، هدفها إخماد شعلة النضال من أجل الوطن.