لقد نشأت جامعة صنعاء تعبيراً عن الحاجة الماسة بغرض التواصل مع الفكر الإنساني خاصة أن اليمن عاشت فترة انغلاق استمرت لعقود طويلة استمرت حتى العام 1972م، تلك الفترة التي شهدت ميلاد الجامعة. وفي الضفة الأخرى من الخارطة العربية كانت الدول العربية تؤسس لنقل الفكر الإحيائي، خاصة الفكر العقلاني منه، وإذا ما عدنا بالذاكرة قليلاً إلى فترة الستينيات سنجد أن تياراً واسعاً في الوطن العربي كان يسعى في تلك الفترة إلى خلق مؤسسات تعليمية متخصصة مستقلة، وكان الهدف من إنشاء الجامعات هو الفصل بين مجالي «الدين» و«العلم». وقد كان لدولة الكويت الشقيقة الفضل في بناء جامعة صنعاء في بداية السبعينيات من القرن العشرين، كان الهدف من ذلك هو تحقيق الاستقلال وإنشاء الدولة العصرية على أساس علمي متين. وفي الثمانينات من القرن العشرين صار استقلال الجامعة عرضة للتهديد بعد أن اخترقها التيار الديني وبدأ يعلن عن نفسه بتكفير اثنين من أبرز أساتذة الجامعة هما الدكتور/عبدالعزيز المقالح والدكتور/حمود العودي، وكان ذلك الحدث دليلاً على اختراق الجامعة وتزايد درجة التهديد الموجهة ضد الاستقلال الفكري والأكاديمي الذي أنشئت على أساسه الجامعة. الجامعة بعد الوحدة هناك الكثير من التشابه بين فترة ما بعد الوحدة وما قبلها دون إهمال عناصر الاختلاف التي تتلخص في المناخ الاجتماعي والسياسي والفكري في تسعينيات القرن العشرين، ففي فترة السبعينيات كان استقلال الجامعة في وضع أفضل نسبياً. ومما لا شك فيه أن قيام الوحدة سنة 1990م يعد نقطة تحول حاسمة في الحياة اليمنية على أكثر من مستوى وبأكثر من معنى، ما يهمنا هو تأثيرها في الحياة الفكرية بصفة عامة وفي حياة الجامعة بصفة خاصة، فعند قيام الوحدة بدأت الأحزاب السياسية تعلن عن نفسها بشكل رسمي، وبدأ السباق على الجامعة، حيث طال ذلك عملية الاستقطاب، وبدأت بعض الأحزاب تسهّل عملية التعيين لأعضائها وتقف في وجه من تعتقد أنه ليس معها، وكان الهدف من ذلك هو إلحاق الجامعة فكرياً وأكاديماً وليس إدارياً فقط بالأبديولوجيا الحزبية، وفي ظل تنامي التيار الديني الأصولي بين الطلاب كان هناك استجابة مخجلة من قبل أعضاء هيئة التدريس الذين يمارسون توجهات فكرية تساعد على التحريض ما يكشف عن حجم مأساة الوضع الجامعي، وبعد سقوط الائتلاف بين المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح وخروج الأخير إلى صفوف المعارضة اعطى الإصلاح الضوء الأخضر لأعضائه في الحصول على بطاقة المؤتمر كنوع من التقية حتى يتمكنوا من الوصول إلى المناصب الإدارية داخل الجامعة وأعضائها لتوجيهاته الفكرية، هذا التوجه ساعد على خلق فساد مضاعف داخل أروقه الجامعة ونسج الفساد خيوطه بشكل لافت للنظر. نحن نعلم أن فترة الائتلاف الحكومي قد عكست نفسها على كل شيء بما في ذلك الجامعة، حيث تصور كل طرف من أطراف الائتلاف أنه يستطيع استخدام الطرف الآخر لتحقيق أهدافه، لكن انهيار الائتلاف ولّد معه صراعاً سياسياً مريراً دخل الإسلام فيه كأداة من أدوات تحقيق المشروعية فكرياً وسياسياً. وقد كشف هذا الطرح الدائر داخل الجامعة وخارجها عن الغياب الكامل لأي بعد إصلاحي وطني في مشروع تلك الأحزاب؛ لأن استراتيجية هذه الأحزاب تنطلق من استراتيجية الاستيلاء على الجامعة بأي وسيلة وبأي ثمن. وفي ظروف مثل هذه تحول التعليم إلى «تلقين» وتحول البحث العلمي إلى «نقل» و«تقليد» وتخرجت أجيال من «المتلقين» حصل بعضهم على الدكتوراه بالتلقين والنقل، ثم صاروا أعضاء هيئة تدريس ..!. وفي ظل وضع كهذا تلاشت الحدود بين الجامعة والجامع، وأصبح الكثيرون من أعضاء هيئة التدريس خاصة في مجال الدراسات الإسلامية والعربية يجمعون بين التدريس في الجامعة والوعظ الديني في المساجد، بل إن الوعظ في المسجد أضحى من أهم المؤهلات لأساتذة الجامعة ليكسب الأستاذ سمعة طيبة، والأخطر من ذلك أن أستاذ الجامعة صار يمارس الوعظ في قاعات الدرس وكأنه في المسجد، وهكذا تحول بعض الأساتذة من السلك الجامعي إلى وعاظ. إن الجامعة كمؤسسة علمية بدلاً من أن تقود المجتمع نحو التغيير، استجابت لتيار المحافظة في المجتمع واستجابت للنداءات الحزبية والصيحات المتشنجة القادمة من قاع المجتمع. والسؤال الذي يطرح نفسه أمام القائمين على الجامعات اليمنية هو: متى يخرج الدرس من الوعظ إلى البحث، ومتى تصبح الجامعة لا دين لها إلا العلم؟!. ومن ينظر إلى وضع الجامعة اليوم يصاب بالحسرة والفجيعة لما وصلت إلىه من تخلف في الإدارة والمنهج، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فإننا سندفع ثمناً غالياً على المستوى الثقافي والفكري.وإذا استمرت الجامعة تسير على هذا النحو فإن التخلف سيظل ملازماً لنا، وسيصبح التحديث ضرباً من الخيال.وإذا أردنا أن نفهم المأزق الذي وصلت إليه الجامعة فعلينا أن نعرف حجم الأبحاث العلمية وعدد الأساتذة الذين لديهم القدرة على الإشراف على الرسائل