ما انفكت الديمقراطية تترجم شفافية الحوار، ومنطق السلم في التعايش الاجتماعي حتى إذا ما تم تداولها بأنانية مفرطة تحولت إلى عنف بشعار ديمقراطي. العنف جزء من تكوين الذات البشرية ، وأول ما مارسه الأخوان/ قابيل وهابيل، إلا أن التحول المعرفي في التجربة الإنسانية ارتقت بالسلوك البشري إلى قيم التعايش السلمي ، حتى إذا ما انتقلنا إلى العصر الحالي صار مصطلح الديمقراطية هو العنوان الذي تندرج تحته جملة الحقوق والواجبات المناطة بالفرد ومؤسسة الدولة الكفيلة بضمان قدر كبير من السلم الاجتماعي. لكن على ما يبدو أن المفهوم الحقوقي أخذ بالتعثر كثيراً في نطاق الممارسة العملية ، فبات الصحافي يمارس حقه من حريات الرأي بشيء من العنف اللفظي الذي يتعدى فيه على حقوق المجتمع ، ومن يستهدفهم في مادة تناوله الإعلامي لقضية ما .. وصارت الظاهرة المعاشة هو بقدر العنف اللفظي الذي يستخدمه الصحافي يقاس حجم ديمقراطيته وتحرره. الرموز السياسية أيضاً دخلت حلبة العنف الديمقراطي فلم يعد لفظ «حوار» إلا مصطلح ممقوت لديها، وأمست تعتمد خطاباً مليئاً بألفاظ السباب والقدح للآخر، وباسم الديمقراطية تهدد بممارسة العنف .. بل إن الأحزاب في الغالب أصبحت تراهن على العنف الديمقراطي في تأكيد حقها في العمل السياسي أو مطلبها إزاء قضية معينة .. وقد رأينا كيف أن البعض كان يراهن إما على تحريك الشارع أو الثورة الشعبية، أو الاستقواء بالخارج ضارباً بذلك كل الخيارات المفترضة في الممارسة الديمقراطية. إن هذا الأسلوب بدأ ينتقل بعدواه من النخب السياسية والثقافية والمدنية المختلفة إلى القواعد الدنيا من المجتمع، حتى أصبحنا نسمع أن طلاباً هاجموا مركزاً اختبارياً بالحجارة ، وحاصروا من فيه من مراقبين لأكثر من ساعة وعندما استغاث المعلمون بأجهزة الأمن ثارت ثائرة أولياء الأمور جراء تدخل الأجهزة الأمنية واحتجوا واعتصموا أمام المجمع الحكومي .. فهناك ثقافة رسختها النخب لديهم أن من حقهم كأفراد ممارسة العنف، والاعتداء على من شاءوا من أجهزة ومؤسسات الدولة، وفسرت ذلك على أنها حقوق ديمقراطية وإنسانية غير مكترثة بالضرر الذي يلحق بالآخرين .. ولا بالعواقب المترتبة على تنمية ممارسات العنف لدى الشباب وترسيخ قناعة زائفة بحقوق العنف الديمقراطي الذي يشيع الفوضى والأذى في المجتمع. ربما الأمر مرتبط بجزء منه بواقع الوعي الاجتماعي المتدني والتحول الديمقراطي السريع إلا أن الجزء الأعظم منه بتقديري يرجع إلى تدني الوعي الديمقراطي والفهم السياسي لدى النخب نفسها لكونها هي من تشجع على العنف وتحميه .. فهي التي تدافع عن بعض المجرمين باسم حقوق الإنسان وتروج التقارير والبيانات التي تؤلب الرأي العام بمعلومات مضللة للدفاع عنهم.. وهذه النخب هي نفسها من يعطي حقاً للمعلمين باستخدام العنف ضد الطلاب من خلال دفاعها المستميت عمن يتم معاقبته منهم جراء ممارسة مثل هذه السلوكيات. وهذه النخب لم يسبق لها أن جربت ممارسة الديمقراطية دون التفكير بالعنف بديلاً لحالة إخفاقها في نيل مطالبها .. وللأسف الشديد إن القوى الوطنية اليوم تراهن على أي تقرير يصدر عن أية منظمة أجنبية، وعن أي خبر تنشره صحيفة أجنبية، وعن تصريح أي مسئول أجنبي أو حتى موظف أجنبي صغير يزور اليمن في إطار وفد ما، ولا تراهن على قيمها وتراثها الثقافي وأخلاقياتها ، وهو الأمر الذي يجب في ظله مناهضة الديمقراطية المستوردة، والثقافة المتطفلة، وكل المروجين لديمقراطية العنف.