التجربة الديمقراطية اليمنية التي دُشّنت في 27 أبريل 93 حظيت باهتمام واسع تجاوز الأطر الإقليمية إلى الدولية التي كانت على مدى الأعوام الماضية تتابع عن كثب مفردات التطور اللافت في التعاطي اليمني مع تجربة الديمقراطية والتعددية الوليدة. ويرى كثيرون أن نموذج التعاطي اليمني مع مفردات ثقافة الديمقراطية تجسد أكثر في نجاح اليمن بإجراء ثلاثة انتخابات نيابية منذ العام 1993 إلى أربع تجارب انتخابية للمجالس المحلية والانتخابات الرئاسية. ويشير هؤلاء إلى أن هذا النجاح وإن كان قوبل بإشادة إقليمية ودولية إلا أنه مثّل في تقييمات العديد من المراقبين بداية تحول حقيقي في المنطقة صوب الديمقراطية باستلهام التجربة الديمقراطية اليمنية الرائدة التي امتازت بخصوصية وطنية. وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" استطلعت آراء نخبة من الشخصيات الأكاديمية اليمنية والعربية حول التجربة الانتخابية اليمنية الديمقراطية كثقافة حاضرة في تحديد بوصلة الاستقرار السياسي والاجتماعي ودلالة وأبعاد التجربة اليمنية في تقديم نموذج لكيفية الارتكان إلى التنافس السياسي الديمقراطي في بناء المستقبل. العصف الديمقراطي الخلاق الدكتور/عبدالرحمن الشرجبي الأكاديمي اليمني والناشط في العديد من منظمات المجتمع المدني يوضح في رؤيته لأهمية الديمقراطية كوسيلة لتجنب العنف السياسي ودلالات التجربة اليمنية كنموذج للمقارنة بين تأثيرات حضور وغياب الممارسة الديمقراطية، قائلاً: «إن نجاح اليمن في تقديم تجربة حقيقية ومعاشة في كيفية التعايش مع مفاهيم وتقاليد الديمقراطية كان السبب الرئيس في ضمان عدم اندلاع شرارة العنف السياسي». ويضيف الدكتور/الشرجبي: «اليمن ورغم تركيبتها الديمغرافية المعقدة التي تتسم بالطابع القبلي لم تدخل في دوامات عنف كالتي تعصف الآن بالعراق والصومال وأقطار أخرى في العالم، لأنها اعتمدت مبدأ الانفتاح على الديمقراطية كالتزام، وأياً كانت الشوائب التي لا تزال عالقة على مفاصل التجربة اليمنية إلا أن هذه الشوائب أو أوجه القصور بحد ذاتها تعد من وجهة نظري جزءاً لا يتجزأ من العصف الديمقراطي الذي سيثمر تطوراً تدريجياً ومرحلياً لمستوى الحراك الديمقراطي في اليمن بالارتكان إلى حقيقة أن مستوى الوعي الاجتماعي والسياسي بأهمية ترسيخ تقاليد الممارسة الديمقراطية يرتفع باضطراد في اليمن، فلا يمكن مقارنة مثلاً الانتخابات الرئاسية الأخيرة بالانتخابات التي جرت في العام 1999م، هناك تطور للتجربة وللممارسة، وهذا سيمثل أكبر ضمانة لديمومة الاستقرار السياسي في اليمن. إبداع التجربة اليمني ويشير الأكاديمي اليمني/عبدالعزيز زين السقاف المتخصص في مجال السياسة المقارنة إلى أن اليمن استفادت من تجاربها السابقة، ومن تاريخها المعاصر المثخن بالتجارب القاسية والعنف، لذلك نجد أن التجربة الديمقراطية اليمنية في تطور مستمر، والديمقراطية بحد ذاتها أصبحت خياراً لا رجعة عنه، كما يؤكد ذلك دائماً فخامة الرئيس/علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية.. ولولا الديمقراطية لما استطاعت اليمن تجنب الدخول مجدداً في دوامة الصراع الداخلي. ويلفت الدكتور/السقاف إلى أن هناك إبداعاً في التجربة اليمنية يتمثل في القدرة الخلاقة على استيعاب كافة الأيدلوجيات السياسية بما في ذلك الأحزاب والتنظيمات ذات الطابع الإيدلوجي العقائدي أو ما يطلق عليها الآن مصطلح "الأحزاب الإسلامية"، لليمن تجربته المتفردة التي تمثل بالفعل درساً لتجنب كوارث العنف السياسي التي خلفت حتى الآن مئات الآلاف من الضحايا في العراق، ومثلهم من المشردين واللاجئين في الصومال. ويرى أن الأسباب الكامنة وراء ظهور مآسٍ إنسانية بالغة كالتي تبرز حالياً على ملامح المشهد العام في العراق والصومال ناتجة عن سوء ممارسة الديمقراطية. ويضيف: ميزة التجربة الديمقراطية اليمنية كما أسلفت اعتمدت الانفتاح على كافة الأيدلوجيات والتباينات الاجتماعية، وهذا ما ولّد بالضرورة حالة متطورة من التعايش السياسي الذي قطعاً لا يخلو من المنغصات.. وبالنظر إلى ما يحدث في العراق تتجلى لنا حقيقة واضحة أن ثمة سوء ممارسة للديمقراطية، بمعنى تجزئة الديمقراطية أو حصر التعددية في قالب من الشعارات وإفراغها عن مضمونها الواقعي لاعتبارات التمييز العرقي أو الطائفي أو المناطقي، الأمر الذي تسبب في ازدياد حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي.. أيضاً الصومال تفتقر في مشكلتها المزمنة لحلول ترتكز على تغليب الخيارات الشعبية في تحديد هوية السلطة.. هناك فوضى غير خلاقة طبعاً.. وأعتقد أن الديمقراطية كحل للصراع المزمن في الصومال لا يقل أهمية عن قطعة الخبز التي يجب توفيرها لحل المشكلة الإنسانية والمتفاقمة. العنف سياسي الدكتور/جلال إبراهيم المنذر أكاديمي عراقي متخصص في مجال السياسة الدولية، ومن واقع معاصرته لتجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في اليمن، تبلورت لديه بعض المشاهدات الخاصة حيال ما وصفه «بالمشكلة الكامنة وراء اندلاع الصراعات السياسية في البلدان غير الديمقراطية». ويقول: المآسي الناجمة عن الصراعات المسلحة من أجل الاستحواذ القسري على السلطة هي خلاصة طبيعية لغياب الديمقراطية، بمعنى أن الديمقراطية تحولت فعلاً إلى ضمانة حقيقية للأمن والاستقرار الاجتماعي وللتعايش السياسي الآمن بين مختلف الأيدلوجيات.. وفي اعتقادي اليمن قدمت تجربة جادة ولافتة في كيفية تطويع الديمقراطية لخدمة وتعزيز الأمن الاجتماعي والتعايش السياسي. ومن خلال اطلاعي عن كثب على تجربة الانتخابات الرئاسية الأخيرة ترسخت لدي حقيقة أن العنف السياسي الذي يخلف وراءه بالضرورة كوارث إنسانية واجتماعية هو نتاج لتخلف الخيار الديمقراطي وتغييبه عن الخارطة السياسية لأي بلد يعيش مآسي كالتي يعيشها الآن العراق. ويضيف: الديمقراطية الحقيقية والصحية تكفل استيعاب كافة القوى والإيدلوجيات في بوتقة تنافس شريف لا يفسد للود قضية، وبالتالي تنعدم فرص الاقتتال الطائفي أو العنف السياسي.. والنتيجة تكون عكسية تماماً حين تغيب الممارسة الديمقراطية، لأنه بغيابها يكون المجال مفتوحاً لاحتمالات الصراع المسلح والاقتتال والدمار.. واليمن في نظري قدمت درساً يجب استيعابه، وعلى اليمنيين أن يحافظوا على ريادتهم في هذا المجال بتأصيل وترسيخ الفكر والممارسات الديمقراطية ثقافة الديمقراطية ضياء الدين جاسم النابهي كاتب صحفي عراقي مقيم في دبي اعتبر الكوارث الإنسانية التي مرّت بها ولا تزال أقطار في المنطقة والعالم عززت الشعور العام بأهمية انتهاج الديمقراطية كخيار آمن لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي.ويقول: لقد اتسعت دائرة أو نطاق التعاطي مع الديمقراطية كثقافة وسلوك سياسي واجتماعي في العالم العربي خلال العقد الأخير.. والعديد من الأقطار العربية بما في ذلك الأقطار التي يتسم نظامها السياسي بكونه ملكياً أو وراثياً بدأت تتعاطى مع الديمقراطية بشكل مضطرد.. وهذا يقدم دلالة واضحة تؤكد أن الديمقراطية تحولت إلى خيار لابد منه للمجتمعات التي تنشد الاستقرار، فهي بالفعل الوسيلة الوحيدة لتجنب العنف السياسي، لأنها تؤمن حقوق التداول السلمي للسلطة، وهذه الحقوق بترسيخها كتوجهات جادة تكون ضمانة ضد الاقتتال الأهلي والانقلابات المباغتة التي تعصف بأمن واستقرار الشعوب. استلهام الحكمة اليمانية وحول تقييمه للتجربة الديمقراطية اليمنية ودلالاتها الواقعية في تقديم نموذج لكيفية تأصيل الخيارات السلمية الضامنة لتجنب العنف السياسي، يقول: لست ملماً بشكل واسع وعميق بتفاصيل التجربة الديمقراطية لكنني أستطيع كمثقف عربي أن أجزم أن اليمن امتلكت أسباب ومقومات استقرارها الداخلي وازدهارها المستقبلي من اللحظة التاريخية التي انتهجب فيها الخيار الديمقراطي.. وإذا ما كانت الحكمة ضالة المؤمن فليكن لنا أن نستلهم الحكمة من بلد الحكمة، وأن نستفيد كأقطار عربية من تجربة اليمن الديمقراطية الرائدة. الديمقراطية وسيلة وغاية الأكاديمي والباحث الكويتي المتخصص في مجال العلوم السياسية ناصر راشد الأنصاري، يرى من جهته أن الديمقراطية باتت مطلباً ملحاً لمواجهة استحقاقات القرن الواحد والعشرين، وكذا التحديات التي تحيط بالمنطقة العربية.. مشيراً إلى ذلك بالقول: لقد تحولت الديمقراطية إلى مطلب ملح وحيوي لمواجهة التحديات التي تواجه المنطقة لأن الديمقراطية تمثل عضداً فكرياً للحمة الداخلية لأي مجتمع من المجتمعات، فالجميع يلتف حول مصلحة الوطن، والتنافس يكون للحصول الشرعي على حق التأهل السياسي لقيادة منظومة المصالح الوطنية.. الديمقراطية ليست فقط وسيلة لتجنب المآسي الناتجة عن اندلاع العنف السياسي، ولكنها أيضاً غاية لتحقيق الأمن والاستقرار الداخلي.. وفي تقييمي الشخصي فإن اليمن ودولة الكويت قدمتا تجربتين تستحقان التعميم كنموذج للتعاطي العربي الخلاق مع استحقاقات الديمقراطية التي بالممارسة الحقيقية لها كواقع وليس شعارات تكون بمثابة واقٍ لأي مجتمع عربي من الفتن والاحتراب والاقتتال الذي تولّده المطامع في الوصول إلى السلطة.