كثيراً ما نشاهد برامج في الفضائيات العربية تستضيف علماء ومفكرين عرباً يعيشون في المهجر بصفة دائمة، تستفيد من كفاءاتهم وقدراتهم تلك البلدان الأجنبية، فتنتاب الواحد منا مرارة وحسرة بسبب فقدان مثل تلك الكفاءات العلمية والثقافية وفي مختلف المجالات، والتي بلداننا العربية في أمس الحاجة للاستفادة منها ومما تحمله من معارف علمية واجتماعية وثقافية. لكن بمجرد رجوعنا إلى واقع بيئتنا العربية تؤكد لنا كل الدراسات المتعلقة بهجرة العقول العربية بأنها بيئات طاردة للكفاءات العلمية ندرك حجم الهوة التي تفصلنا عن الآخرين، ولماذا هم سبقونا في معترك النهوض العلمي والتكنولوجي، وبلغوا ما بلغوه من تقدم مستفيدين من كفاءاتهم مضيفين إليها عقولاً مهاجرة إليهم عرفوا كيف يجتذبوها في الوقت الذي بلدانهم الأصلية تطردهم لأسباب مختلفة..؟ في العام الماضي ذكرت دراسة لمركز الخليج للدراسات الاستراتيجية أن هجرة العقول العربية تكلف الدول العربية خسائر لا تقل عن (200) مليار دولار، وأن الدول الغربية الكبرى هي الرابح الأكبر من هجرة ما لا يقل عن (450) ألفاً من هذه العقول، وذكرت الدراسة أن نحو (45%) من الطلاب العرب الذين يدرسون في هذه البلدان الغربية لا يعودون إلى بلدانهم، وأن نحو (34%) من الأطباء الأكفاء هم من العرب، وذكرت أن هنالك نحو (75%) من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة بالفعل إلى ثلاث دول وهي كندا وبريطانيا والولايات المتحدة. فلغة الأرقام والإحصائيات لا تتجمل بوجه مزيف فهي دائماً ما تكون راصداً دقيقاً لكل الحركات الظاهرة على اعتبار أن هجرة العقول والكفاءات العربية ظاهرة ليست بالحديثة. وقد يظن البعض بأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد عملت على عرقلة هجرة هذه العقول أو قد خففت منها، لكن التقارير تؤكد عكس ذلك.. فهجرة العقول آخذة في الازدياد، بمعنى أن الخلل ما زال قائماً والاستنزاف ما زال مستمراً، أي أن خسارة البلدان العربية مرشحة للزيادة خلال الأعوام القادمة بما يتخطى ال(200) مليار دولار ما لم تتدارك الأمر. يوعز البعض السبب الرئيسي لهجرة العقول العربية إلى تدني مستوى الإنفاق على البحث العلمي والتقني في البلدان العربية، حيث قدر الإنفاق السنوي للدول العربية على البحث العلمي معدلاً لا يتجاوز (.2%) من إجمالي الموازنات العربية وهي نسبة متدنية جداً مقارنة بالدول الغربية، ففي السويد مثلاً تقدر نسبة الإنفاق السنوي (3.8%)، وهكذا الحال في بقية الدول الأوروبية، فأمريكا وكندا واليابان بما فيها اسرائيل لا يقل إنفاقها السنوي على البحث العلمي عن (2.6%) لا شك أن تدني نسبة الإنفاق على البحث العلمي والتقني من الأسباب الرئيسية لهجرة العقول العربية، إلا أن هنالك عوامل أخرى طاردة لتلك العقول تدفع بها نحو الهجرة منها: أولاً: انخفاض وتدني الأجور والحوافز في المقابل ارتفاعها في بلدان المهجر. ثانياً: عدم وجود البنى التحتية الخاصة بالبحث العلمي والتقني كالمعامل والمختبرات وغيرها. ثالثاً: المشاكل الوظيفية والإدارية والتعقيدات والبيروقراطية التي تغلب على جميع المؤسسات. رابعاً: عدم وجود التفرغ المدفوع الأجر للباحث بحيث يتفرغ للبحث العلمي. وغيرها من المشاكل المتعلقة بتشجيع البحث العلمي وإعطائه مكانته اللائقة به بحيث يساعد على اجتذاب العقول بدلاً من طردها. لا شك أن القضاء على الأسباب والعوامل الطاردة للعقول والكفاءات العربية آنفة الذكر ليس بالأمر الصعب، خصوصاً أننا نمتلك القدرة المالية على ذلك، مع علمنا بأن أي إنفاق عليها سيعود بعائد أكبر فنحن الأولى بالاستفادة من عقولنا المهاجرة والاستفادة من ال(200) مليار دولار التي نخسرها من جراء هجرتها.. وحتى يحين القضاء على تلك الأسباب والعوامل الطاردة للعقول والكفاءات العربية سيظل الخلل قائماً.