انتهت سكرة النصر في حرب لبنان الأخيرة وبدأت فكرة وهموم ما بعد سكون المدافع والطائرات.. وبالنسبة لنا نحن العرب فهو نصر بلا شك لأنها المرة الأولى في تاريخنا المعاصر التي صمدنا فيها شهراً كاملاً أمام "إسرائيل" من دون أن تتمكن من تحقيق أهدافها من الحرب، بل خرجت منكسرة بعد أن ضربت في عمقها للمرة الأولى منذ احتلالها أرض فلسطين قبل ستين عاماً.. ولو افترضنا صدق النوايا، وأوهمنا أنفسنا أنها صحوة ضمائر، أو مفاجأة وعي، فإن المشكلة الأخرى هي في البحث عن حلول لظاهرة العنف من خلال مطالبة الأحزاب لبعضها البعض بتوقيع مواثيق والتزامات، وفرض إجراءات تعتقد قيادات الأحزاب أنها ستحد من العنف. وكأن لسان حالهم يقول إن العنف قد ينتهي بقرار سياسي، والتزامات حزبية.. والعجيب أن تعتقد القوى السياسية أنها تستطيع بعد توقيع الاتفاقات ضمان أنصارها بعدم ارتكاب حوادث عنف، أو تجنب حمل الأسلحة، وضمان سلامة المواطنين. لا أدري كيف يستقبل اليمنيون خبر أن الأحزاب كانت طوال هذه الفترة الماضية تحمل مشروعاً «وطنياً» للحد من العنف وإيقاف إزهاق الأرواح لكنها لم تفعل، لأنها لم يُقتل أحد مرشحيها، أو أحد أعضائها النشطين، أو لأنها لم تكن خائفة من أن يقتل أحد الناخبين الذي تعول على صوته بالفوز في الانتخابات!! لكنني عندما استمعت للجدل الذي دار في المركز الإعلامي بين قيادات الأحزاب، واللجنة العليا للانتخابات، والمنظمات الدولية لم أصدق أذني أن القوى الوطنية اليمنية الآن فقط استشعرت خطر انتشار الأسلحة، وعرفت أن في البلد ظاهرة عنف..! فهل معنى ذلك أن هذه القوى لم يبلغها العلم بحوادث اختطاف السياح الأجانب على أيدي مسلحين في مارب وشبوة؟ وهل هذه القوى لم تعلم بالمسيرات الجماهيرية الحاشدة التي تظاهرت أكثر من مرة في شوارع العاصمة، ووقفت على أبواب مجلس النواب تتوسل البرلمانيين بالإسراع بإصدار قانون تنظيم حمل وحيازة السلاح الذي «قبره» المجلس منذ عام 1999م، ولم يسمح له برؤية النور بتاتاً لأن هناك مئات المسلحين أمام باب المجلس بانتظارهم لزفهم بمواكب الزعماء!؟ وهل معنى هذا أننا أمام اكتشاف جديد يؤكد أن قيادات الأحزاب لا تقرأ الصحف المحلية لذلك لم يبلغها العلم بالنشرات الدورية التي تصدرها وزارة الداخلية اليمنية بالأعداد المخيفة لضحايا السلاح.. أو حتى القصص المريعة التي تنشرها كل ثلاثاء صحيفة "الحارس" لأطفال يقتلون بعضهم بسلاح أبيهم، وآباء يقتلون أبناءهم بالخطأ، وأبناء يقتلون أمهاتهم أو أخواتهم عن جهالة في استخدام السلاح، وأزواج يفقدون زوجاتهم وييتمون صغارهم إثر إهمال، أو غياب الحذر! هذا شيء فظيع ولا يستساغ إطلاقاً من أية قوة سياسية وطنية أن تقف متفرجة على الأجهزة الحكومية وهي تجاهد للحد من ظاهرة السلاح طوال الأعوام الماضية، واليوم فقط تأتي لتذرف الدموع، وتملأ الدنيا ضجيجاً حول عنف السلاح. بالأمس غضت الطرف عن المسيرات الشعبية المطالبة بالحد من انتشار السلاح، ولم تعرها أية أهمية، ومنعت أعضاءها من المشاركة فيها، بل أوجدت آلاف الحجج لتمييع القضية، والالتفاف على المطالب الشعبية، ولتصوير ذلك للرأي العام بأنه مؤامرة لتسليم رقابها للأعداء. وبالأمس دعمت، ودفعت وشاركت، وحرضت على مسيرات واعتصامات لأتفه الأشياء وصمت أذنيها عن قضية السلاح، والقوى الفاسدة المتاجرة بالموت.. لكنها اليوم نجدها تطل علينا بوجوه الحملان الوديعة تبكي من عنف السلاح، وكل منها يحمل الطرف الآخر مسئولية حوادث العنف المصاحبة للانتخابات. لم أرغب يوماً التورط في أي جدل مع الأحزاب، لكنني لم أتمالك نفسي من الاستياء من هذه القوى السياسية التي تعيش حالة انفصام سلوكي بعملها الوطني، وتمارس السياسة بأنانية مقززة إلى حد يبعث على القيء.. فكل شعاراتها باسم الشعب اليمني، لكنها لم تتحرك لها شعرة ومجازر السلاح تحصد أرواح الأبرياء من أبنائه، حتى عندما طال شخصاً منها تقافزت، وصارت تدور بقميصه على المحافل والمدن والمنظمات والسفارات، وتلطم عليه في مناسبة ومن على كل منبر..! لماذا حملة الأقلام والمثقفين والناس الواعين في هذا البلد ساكتون؟ لماذا لا يسألون هذه الأحزاب: أين كانت نائمة عندما خرجت مدن اليمن عن بكرة أبيها تدين ظاهرة انتشار السلاح، وتطالب بقانون صارم للحد من انتشاره؟ لماذا يلهثون وراء تقارير الفساد المالي ولم يتحركوا خطوة عن فساد تجارة السلاح الذين دفنوا قانون تنظيم السلاح في البرلمان، وأعاقوا الجهات الأمنية من القيام بواجباتها؟ اسألوهم إن كانوا صنّاع معجزات: كيف لهم أن يحققوا معجزة الحد من انتشار السلاح في اليمن خلال ستة عشر يوماً متبقية ليوم الاقتراع!؟ لتكتشفوا حينها أية مزايدات تبيع بها بعض الأحزاب أبناء شعبها، وأية قيمة رخيصة تضعها لثمن حياة أي فرد من هذا الشعب!