لديمقراطية ممارسة.. وها نحن نعيشها رغماً عن أنوف من ينتقصونها.. ومن ينتقدوننا.. ومن يحسدوننا، فليس كمثلنا أحد في فنون الاحتفال بالعرس الديمقراطي. حشود بشرية تتوجه بكرنفال احتفالي في قلب العاصمة صنعاء لحشد الولاء لمرشحها، فيما تخترق جموعهم سيارة تغني بمكبرات الصوت لمرشح آخر، وكل منهم ينظر إلى صاحبه ويضحك.. أما الشوارع فقد غرقت بصور المرشحين وملصقات دعاياتهم الانتخابية، وما يطل الصباح حتى تجد جدار بيتك وقد اكتسى بصور مرشح ربما لا تؤيده فيعكر مزاجك إلا أن تخجل أن تزيلها، وربما هو من تؤيد فيشرح صدرك وتمتن للأيدي التي لصقتها. ساعات الصباح الأولى ترى اليمنيين ظمأى للحديث في السياسة.. فليس من باص يقلّك إلى عملك من غير أن يرغمك على خوض الجدل.. هذا يمدح، وآخر يشتم، وثالث يحلل الأمور برؤية ومنطق المثقف، ورابع يستهويه عشق الأول ويستفزه البحث عن ثانٍ ، ولا مفاجأة إن أوقف السائق حافلته وطلب من ركابه النزول لأنهم يؤيدون غير مرشحه، فترى في عينيه نشوة النصر، وترى في أعينهم نشوة النصر أيضاً لأنهم أغاظوه ، والكل يمضي إلى سبيله، وليس من مهرب من هذه الأجواء، فحديث الانتخابات كالأنفاس في اليمن تقتلك إن لم تستنشقها. وفي المركز الإعلامي للجنة العليا للانتخابات كانت الأسلحة تتزاحم على الشفاة، ومراسلو الصحف المحلية مهما أخفوا مشاعرهم نحو المرشحين يمكنك أن تقرأ بين سطور الأسئلة انتماءاتهم الحزبية.. فالكل ينتهز فرصة البحث الحي للمؤتمر الصحافي ليوجه رسائله عبره إلى داخل غرف البيوت في مختلف أنحاء الجمهورية.. وهذا راضٍ، وذاك زعلان، وآخر غاضب، وسيدة تشهر جزمتها رداً على آخر، وتلك هي الديمقراطية، وتلك هي اليمن تنفض انفعالاتها خلف الأبواب، وعلى واجهات الصحف، ليجتمع الحب والوداد مجدداً بعد قليل على مائدة بمطعم، أو داخل مقيل قات، أو حتى برسالة موبايل تحمل نكتة انتخابية. العرس الديمقراطي في اليمن ليس له نظير في بقعة أخرى من هذا العالم الذي فيه الكثير ممن سبقوا اليمن إلى خيار الديمقراطية.. ففي هذا البلد لم تعد السياسة حكراً على الرجال بل صارت النساء تتداولها في كل مجلس، وصارت ربات البيوت مشدودات إلى برامج التلفزيون وما يبثه حول مهرجانات المرشحين، أو نقاش حول التنافس الانتخابي.. وبعض النسوة الأميات لم يجدن بداً من خوض غمار السياسة حتى وإن كان ذلك على طريقة عمل العصيد.. فمن ذا الذي يقول إنه أفضل من غيره، ما دامت غزالة المقدشية قالت ذات يوم: «سوا سوا يا عباد الله متساوية.. ماحد ولد حر والثاني ولد جارية»!!. حتى أطفالنا الذين لا لهم ناقة أو جمل في الانتخابات صاروا يسألون الكبار: من ترشح!؟ ثم يؤيدون أو يعارضون بحماس مرددين كالببغاوات كل ما سمعوه من رأي في بيوتهم أو على ناصية رصيف شارع، أو عند بوابة إحدى البقالات.. وباتوا يستمتعون بلصق صور ودعايات المرشحين، ويستمتعون بترقب موعد بث كلماتهم على التلفزيون.. ويستمتعون أيضاً باستفزاز معلميهم في المدارس بالسؤال عمن سيرشحون، حتى إذا صارحوهم خالفوهم الرأي وكايدوهم، وسلت نفوسهم بالآخر وهو يتحمس في الدفاع عن مرشحه. أجمل ما في عرسنا الديمقراطي اليوم هو سعادة الشعور بالحرية، وباستقلالية الذات الإنسانية، وبالإرادة في الاختيار، والمشاركة في صنع ملامح المستقبل.. هذا الإحساس يتلذذ به اليمنيون اليوم بل ينتشون به خاصة عندما يتذكرون أنهم شعب فقير، مازال شبابه يبحثون عن فرص عملهم في المهجر، ومازالوا يتفننون في أساليب العيش لتدبير حياتهم، وكذلك عندما يتذكرون أنهم شعب مكافح قدم إلى الديمقراطية من تاريخ محمل بالآلام والجراحات، ومآسي عهود الظلم والاضطهاد.. وانهم لم يتوحدوا إلا قبل خمسة عشر عاماً ، ومع هذا فهم يمارسون الديمقراطية بأوسع صورها، فيما ظل الآخرون عاجزين عن كتابة رأي في صحيفة، أو انتقاد سياسة حكومة. ما أجمل هذا العرس ونحن نكلله بالسلام والمودة والمحبة.. ونؤمن قبل كل شيء أن الفائز بحكم رئاسة اليمن هو ابن اليمن.. وبعض أهلنا.. وممن يشهد معنا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.