تقف الكلمات عاجزة عن التعبير عن فاجعة الموت، والرحيل المبكر أو الرحيل بأي عمر لعزيز عشت معه، ونسجت معه علاقات حميمة دافئة اختلطت بتبادل المعرفة والمنفعة والود الصادق والحرص الحقيقي على استمرار العلاقة ودوامها، مهما شاب هذه العلاقة في أحيان معينة بعض البرود أو الجفاء، حيث لا تلبث مع الحرص المتبادل من العودة إلى سابق عهدها وربما إلى وضع أفضل وبمستويات أعلى من التفاني والوفاء والحماية لهذه العلاقة الإنسانية التي تسكن القلوب، وتجيش بها العواطف، وتعبر عنها الألسن والمفردات والحواس بتعبيرات غير لفظية، ولكنها مقروءة وذات دلالات واضحة ولا يخطىء القارئ المعني بها من فهم التفاصيل التي سعت إلى شرحها وايصالها. وتعد العلاقات الإنسانية بين بني الإنسان من أكثر العلاقات تعقيداً وسمواً ونبلاً وتتميز عن غيرها من العلاقات بين المخلوقات الأخرى، ولذلك حين يسقط بعض البشر في علاقاتهم ويجردونها من القيم والفضيلة يقال عنها علاقات غير إنسانية وبعضهم يصفونها بالهمجية أو البهيمية نسبة إلى البهيمة التي لا تعقل والتي تقيم علاقاتها مع بني جنسها على أساس المنفعة الغريزية التي تمارسها دون حياء أو مراعاة لعادات أو تقاليد أو شعور لأحد لأن كل هذا لا قيمة له ولا وجود له في عالمها وفي طبيعة تكوينها وقد وصف الله سبحانه وتعالى الضلال الإنساني وابتعاده عن القيم التي خلق من أجلها الإنسان بأنه سقوط إلى مستوى الأنعام بل وإلى أدنى من ذلك بقوله عز وجل [أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ان هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً]، وهكذا علينا ان نفهم إذا أردنا ان تبقى العلاقات بين بني الإنسان في مستواها الإنساني الرفيع الذي اراده الله سبحانه، فعلينا ان نحرص حرصاً شديداً على ان تكون القيم هي جسور التواصل ومداميك العلاقة، فالقراءة الواعية للموت تصل بصاحبها إلى خلاصة مفادها ان الإنسان كجسد يرحل، وتبقى منه قيمه التي كان يسير بها بين الناس. قد يسأل سائل ما الأسباب التي تقف وراء هذا الحديث الذي يذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، والجواب سهل ومباشر وهو ان الموت حقيقة نعيشها كل لحظة ونتعامل معها بفجيعة كلما اقتربت من عزيز أو قريب، ونقف بذهول وعجز حين تصيب من نعتقد بجهل انه مازال في عمر مبكر وانه لم يصل بعد إلى سن الموت، وكأن الموت قد حدد بعمر معين حين يبلغه الإنسان يوافيه، هذا الجهل يجعل الكثير منا لا يراقب مسلكه ولا يقف على مسيرته وسيرته مع الآخرين. فهناك من لايهنأ في مسلكه إلا بأذية غيره والإساءة إليهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. وعودة إلى السؤال نقول فضلاً عما سبق ان الأيام التي اعقبت رمضان الكريم وحتى لحظة كتابة هذا المقال كانت صعبة جداً حيث حملت اخبار الفجيعة بموت أكثر من عزيز، فكانت الفجيعة، الأولى بخبر استلمته عبر الهاتف عن وفاة التربوي العربي الكبير، أمين عام اتحاد التربويين العرب الأستاذ الدكتور/عبدالله خلف الدليمي، الذي ربطتني به علاقة إنسانية ومهنية هي من أكثر العلاقات التي اعتز بها، والتي تمتد إلى ثلاثة عقود، وترجع إلى عام 1987م حين التقيته ببغداد في مؤتمر التربويين العرب حيث كنت ممثلاً لبلادنا مكلفاً عن وزارة التربية والتعليم وتواصلت العلاقة معه كأمين عام تم انتخابه أكثر من مرة وكعضو تشرفت بعضوية الاتحاد إلى ان صارت العلاقة بين أمين عام وأمين عام مساعد، حين تم انتخابي لشغل هذا الموقع بعد ان شغله لفترة أخي وزميلي القدير الأستاذ الدكتور/عبدالغني قاسم الشرجبي وكان خير من مثل التربويين اليمنيين، وكان المرحوم بإذن الله مثالاً للعربي الأصيل ببساطته، ودماثة خلقه وكرمه وحبه للعروبة ولكل أبناء الامة فقد لاحظ الكثير من أبنائه الطلبة من اليمنيين الذين درسوا في عراق العروبة قبل الاحتلال ذلك الحب عبر سؤاله الدائم عنهم وتذليل كل صعوبة أو عوائق تعترضهم برحابة صدر ومبادرة، ولا يتخذ ذلك وسيلة للمن والأذى، فكان إنساناً بكل المعاني يحمل قلباً طيباً لم أقابل في سني عمري مثله مع أني قابلت الكثيرين، وشاءت الأقدار بعد الغزو والاحتلال ان يستضاف في بلادنا في رحاب جامعة تعز التي فتحت له صدرها واحتوته بوفاء وتقدير واعتبار لمكانته إلى ان وافته المنية في خواتم الشهر الكريم وامتدت بوفائها إلى ما بعد الوفاة في مراحل الدفن وما تلاه وما تتطلبه هذه المرحلة من إجراءات هي قيد التنفيذ .. شكراً لرئيس جامعة تعز الإنسان الذي ترجم سلوكاً راقياً يعبر عن مكنوناته الإنسانية النبيلة فالعزاء لكل التربويين العرب ولكل أبناء الأمة ولأهله وذويه أولاً، الذين نسأل الله سبحانه وتعالى لهم الصبر والسلوان. والفجيعة الأخرى كانت في ساعات بعد الأولى والتي حملت خبر وفاة العزيز الحبيب حميد شحرة، الصحفي اللامع، والإنسان الموقف الذي عرفته باحثاً مدققاً وكاتباً حريصاً على امتلاك الحقيقة بشواهدها وهو ما يزال في محافظة إب وفي خضم جهده الذي تمخض بمؤلفه المهم «مصرع الابتسامة» وذلك حين زارني بمركز البحوث والتطوير التربوي باحثاً عن وثائق احتوتها رسالتي التي نلت بها الماجستير واستمرت صلاتنا وكانت مع كل مراحلها تزيدني يقينا بقدراته وحرصه على ان يجسد قيماً لم يتنازل عنها حتى فارقته الحياة، فإلى جنة الخلد ومعه المرحوم الدليمي، وكل الذين احببناهم وفارقونا خلال هذه الأيام التي اعقبت العيد، وأولئك الذين رحلوا في فترات سابقة، ولهم جميعاً ندعو الله سبحانه ان يسكنهم فسيح جناته، ويتغمدهم برحمته فالطيبون من نفقد وهم من تفاجئنا قافلة الموت برحيلهم ولكن القيم التي عاشوا من أجلها ظلت باقية وماثلة أمامنا تذكرنا بهم وتذكرنا ان البقاء لله ومن ثم البقاء بالنسبة للإنسان هي لمآثره فليحسن في ترك مآثر تجعل منه ذكرى عطرة. والله من وراء القصد.