ليس من بلد في العالم لا يخترق التهريب حدوده الوطنية، وليس من بلد في العالم لا يقلقه التهريب مهما تقدمت وسائله في الرقابة الأمنية، إلا أننا أكثر من يجب أن يقلق من التهريب لأسباب مختلفة. فالولايات المتحدة مازالت عاجزة عن وضع حد لتهريب السجائر بين ولاياتها، وعبور المخدرات إلى داخلها عبر دول امريكا اللاتينية «الوسطى»، حيث بلد المخدرات «كولومبيا».. ومع أن العالم بأسره تجتاحه المخدرات إلا أن الأوروبيين لا يقلقهم هذا بقدر قلقهم من تهريب المهاجرين القادمين من شتى انحاء البلدان القريبة وغير القريبة طمعاً في الحياة النظيفة التي يعيشها الأوروبيون. في اليمن تتعدد ألوان التهريب الذي تكافحه الدولة.. ففي منتصف التسعينيات من القرن الماضي اضطرت الحكومة إلى رفع الدعم عن المواد الغذائية مثل الحليب والدقيق لأنها لم تستطع إيقاف قوافل المهربين الذين يتاجرون بهذه السلع عبر حدود دول الجوار. لكننا اليوم في مواجهة مع ظواهر أخرى مثل تهريب الأطفال، والمخدرات، والأسلحة، والمواد الغذائية، والمشتقات النفطية، والمهاجرين الأفريقيين، والأدوية، والمواشي، وربما اشياء أخرى لا علم لي بها.. ومع أن الحكومة تولي قضية تهريب السلاح اهتمامها الأول لاتصالها بالإرهاب، ولاقترانها في الغالب بتجارة المخدرات.. لكن في الآونة الأخيرة صبت الحكومة اهتمامها على ظاهرة تهريب الأطفال، وحققت نتائج إيجابية كبيرة على هذا الصعيد، والصعيد الآخر المتعلق بالسلاح والمخدرات وقبل ايام أصدرت المحكمة الجزائية حكماً باعدام تاجر مخدرات باكستاني وسجن شريكه «25» عاماًَ.. فكانت هذه الأحكام المشددة مبعث تفاؤل في الحد من الظاهرة. لكن النوع الأخطر من التهريب مازال يشهد انتعاشاً في الأسواق.. فتهريب الأدوية والمواد الغذائية أصبحت التجارة الأكثر فتكاً بالشعب اليمني من اي مواد اخرى يجرى تهريبها، حيث إن دراسات اكاديمية كثيرة تؤكد أن هذه التجارة تزهق ارواح عشرات آلاف اليمنيين سنوياً، فالمركز الوطني لمكافحة السرطان يقول إن حوالي عشرين ألف شخص يصابون بالسرطان سنوياً، والسبب الرئيسي هو الأطعمة الفاسدة أو غير المطابقة للمواصفات النوعية التي نراها متكدسة على أرصفة جميع شوارع الجمهورية دون أن يجرؤ أحد على تعقب مصادرها، وجهاتها الرئيسية التي تأتي منها. جميع البقالات في اليمن تغزوها شتى ألوان الشوكولاته والحلويات المهربة والتالفة أو التي تفتقر لشروط الحماية الصحية.. وجميع اطفالنا يتناولون هذه الأشياء يومياً دون أن يستطيع أحدنا التمييز بين ما هو وارد بطرق مشروعة وصحية وبين ما تم تهريبه.. لكوننا لسنا جهات اختصاص ولا نمتلك الخبرة في التمييز. وبشهادة المسئولين في وزارة الصحة العامة والسكان الذين أكدوا بأن أكثر من «60%» من الأدوية التي في الصيدليات مهربة وغير صالحة للاستخدام البشري أو الحيواني، فإن الكارثة أعظم لأن ذلك يضعنا أمام تساؤل مزعج! إذا كانت الجهة المختصة مؤمنة بهذه الحقيقة وفي نفس الوقت عاجزة عن حماية المجتمع منها، وكل ما تقوم به هو تحذيرنا من أن «60%» من أدوية الصيدليات مهربة وغير صالحة، فكيف للمواطن أن يحمي نفسه من شيء لا يستطيع حتى قراءة اسمه أو معرفة دواعي استخدامه ما لم يخبره بذلك المختص!؟ والأدهى من ذلك أن فرق التفتيش الدوائي وقد شهدت ذلك بعيني تداهم مخازن أدوية مهربة ليس لتتلفها بل لتعاود بيع النفيس منها على مذاخر أدوية اخرى ثم تدعو وسائل الإعلام لتكون شاهدة على إتلاف أدوية هي في حقيقتها ليست سوى أكداس كراتين وعلب برامول وقناني شراب من النوع الذي توزعه منظمة الصحة العالمية مجاناً والمكدس لدينا في مخازن الوزارة.. فعندما يجتمع الفساد مع الأدوية الفاسدة فلا سبيل لأحد للتفكير بفرص كبيرة للحياة.. ولن يكون من المجدي منع تهريب السلاح الذي يقضي على حياة المرء في طرفة عين، فيما مازال هناك الأدهى الذي لا يكتفي بالقتل المباشر الفوري بل بأعوام عذاب موت سريري جراء السرطان أو الفشل الكلوي أو امراض الكبد وغيرها.. الغريب في الموضوع كله هو أن الجهات المختصة تعترف بأن هذه المواد الماثلة للعيان في كل مكان قاتلة، ومع هذا تبقى تتفرج وتنتظر أن يبعث لها الله من علياء سمائه من يسأل هؤلاء.. من يورد هذه الأطعمة والأدوية الفاسدة التي تباع برخص التراب للناس البسطاء!!؟