الوحدة جوهر الوجود الإنساني، والطبيعي على حدٍ سواء، فالأشياء المبثوثة والكائنات الموزعة على اليابسة والماء، والمجرات والكواكب وكل ماخلق الله سبحانه تعالى تنتظم في نظام كوني بديع موحد ببعضه ومتوحد بأجزائه، لم ينفرط عقده ولن ينفرط إلا إذا شاء الله، وفق تقديره لبداية الأشياء ونهايتها.. هذا النظام الإلهي مكن كل هذه الموجودات من البقاء والحركة والدوران والجري والسير، والسباحة كل في فلك، بوحدة متناغمة كل يعضد الآخر.. وكل يسند بنظامه الفرعي النظام العام وهكذا بدون هذه الوحدة وهذا التوحد لما تمكنا كمخلوقات آدمية وضع الله سبحانه وتعالى نظاماً خاصاً بها من البقاء والتناسل والقيام بسنة الحياة والتعامل معها باقتدار ومسيرة عطاء انساني يتنامى ويتعاظم كلما عاش الانسان حياة متناغمة وموحدة مع ذاته ومتوحدة بذاته وممتدة إلى الآخر وفق نظام واضح ودقيق. فالوحدة إذاً هي أصل الاشياء والمعلوم ان الانسان فرداً وجماعة يتعرض لنكسات وانكسارات كلما كان ممزقاً من داخله لايعيش توافقاً مع ذاته والآخر هذا بينما يكون قوياً ثابتاً قادراً على الابداع والتميز حين يكون موحداً في ذاته ومتوحداً بها، متماسكاً في كل جوانب شخصيته.. وفي هذا السياق تبين الدراسات النفسية بدرجة خاصة والاجتماعية والتربوية بعامة، ان الشخص السوي هو الشخص المتوازن الذي يتمتع بتوافق مع ذاته، ومع الآخرين، ويكون شخصاً فاعلاً في محيطه متى ماكان متجانساً في فكره ومسكنه يعيش في حالة من الوحدة والتوازن والتكامل في جانبيه المادي والروحي، القيمي والمسلكي وهكذا. من هنا جاء التشديد في التوجيه الرباني في الفكر التربوي الانساني ونظرياته ومدارسه على أهمية التعاطي التربوي مع الانسان جسداً وأشواقاً ، عقلاً وافكاراً، وجداناً وانفعالات وحركة، قيماً ومصالح تستقيم مع مضامين هذه القيم.. ووفقاً لهذا يصبح تحصيل حاصل القول :إن أي تجاوز في تحقيق التوازن أو تهاون في حسن توظيف الادوات ووسائط التنشئة الاجتماعية، هو تجاوز للأرضية والمرجعية التي بها يتحقق التوازن ويصافح الانسجام والتناغم بين الافكار والقيم من جهة، والممارسات والمنافع من جهة أخرى. وفي هذا السياق التربوي، نجد إلاسلام يؤكد على المصالح المرسلة، ويشدد في الوقت ذاته على التمسك بالقيم الثابتة، وأحكام الشريعة الواضحة المبينة لمعاني ودلالات وحدود هذه المصالح والطرق والأساليب التي ينبغي على المرء ان يسلكها ليحقق توازناً بين الحقوق والواجبات والالتزام بالحدود الفاصلة بين الأوامر والنواهي، والمعروف والمنكر، والمباح والحرام، المستحب والمكروه، وغيرها من الثنائيات التي تشكل وحدة موضوعية ونسيجاً متماسكاً للشخصية في سماتها الفكرية وقناعاتها الإيمانية ، ونسيجها الممتد من داخلها إلى المجتمع المتفاعل معه وبه في حركة مد وجزر، تتم وفق نظام محكم ودقيق، وأفق واضح ومفتوح لايخالطه ضباب ولاتحجبه الحجب. وهكذا يمكننا القول:إن الانسان فرداً أو مجتمعاً لايمكن ان يصوغ شكلاً من أشكال الامتداد إلى الآخر دون ان يكون لهذا الامتداد اصلاً في داخله، متجذراً في أعماقه، مبنياً بناء ايمانياً في الفكر والقناعة، لذلك نقرأ في آيات الله سبحانه وتعالى حثاً مشدداً على ضرورة تنقية النفس وتزكيتها وإحداث التغيير في الداخل أولاً قبل أن يفكر في إحداثه في خارجه ومع الغير.. هذه الشخصية القوية الثابتة القادرة على التغيير التي يصوغها التوحد وتشكلها الوحدة الداخلية بين مكونات الشخصية وجوانبها المختلفة، هي التي يعول عليها إحداث النقلات النوعية وصناعة الجديد، وصياغة التقدم، وتوظيف القدرات، واستثمار الجهود والطاقات المتوافرة للشخصية أو تتفاعل معها وتتفعل بها، وتؤثر فيها وتتأثر بها فعلاً وعطاءً، وهي الشخصية التي يفسح لها المجتمع المجال لتبرز وتسهم بدور فاعل في مجريات الحياة المجتمعية ويتم التعاطي معها بقناعة وإدراك مستمد من وعي وادراك لمصداقية هذه الشخصية. وكونها قدوة حسنة متوحدة في فكرها وممارساتها بحزمة نقية وسامية من القيم والغايات الانسانية النبيلة التي يراها المجتمع المثال والطموح.. والقارئ للقرآن المجيد يلمس بوضوح ويسر تأكيده سبحانه وتعالى على هذا المثال وهذه القدوة الحسنة التي تتصف بالتوحد والتماسك، والسكينة والاستقرار والاتزان والاستقامة، إلى درجة انه تعالى وصف خليله ابراهيم عليه السلام أنه أمة ، ووصف المصطفى عليه الصلاة والسلام بالخلق العظيم والقدوة الحسنة والدارس للسيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم يقرأ ان أهل مكة وصفوه بالصادق الأمين قبل البعثة لمالمسوه لمس اليد ، ولما شاهدوه بأم أعينهم في خلقه ونبل سيرته التي كانت قيماً تسير على الأرض وهكذا هي الوحدة مهمة وأساسية، فهي صانعة لنجاحات الانسان وهكذا هو التوافق النفسي والاجتماعي صانع للمحبة والسلام والتعايش بين الفرد ومن يحيط به ويقاسمه الجغرافيا والعلاقات البينية بتفاصيلها المختلفة وهكذا نحن في حاجة ماسة للعمل الدؤوب لترسيخ الوحدة وتعزيز مكانتها في القلوب والعقول وفي تفاصيل الحياة المختلفة لتترسخ حياتنا وتتعزز على قيم المحبة والتعايش والسلام والتنمية والاستقرار.