مقاييس الشجاعة تتباين عند الناس، بين من يراها في عضلاته، أو قلمه، أو حكمته، أو موقفه، وبين من يجدها في أعداد المحمولين على موكب السيارات التي تتبعه، فهكذا البعض يصنع رجولته.. أمس لمحت وجهاً في سيارة صالون مرت بجانبي في شارع حدة فظننته الدكتور/رشاد العليمي نائب رئيس الوزراء، وزير الداخلية لكنني سرعان ما تراجعت عن ظني لأنني تعودت رؤية المشائخ يغلقون الطرقات بمواكبهم الجرارة، فما بالكم عندما يكون المعني نائب رئيس الحكومة، كيف يعقل أن يمر بغير كتيبة حراسات خلفه! قد لا تصدقون أنني بعد قليل أوقفني زحام ظهيرة صنعاء بجانب نفس السيارة، وإذا بذلك الرجل هو الدكتور/العليمي بشحمه ولحمه، يرافقه أربعة أفراد فقط، يمر في الطرقات كأي مواطن عادي، ويتوقف عند الإشارات المرورية مثلنا، ويفتح زجاج السيارة من الحر مثلنا.. ويتأمل بالوجوه والسيارات والمباني مثلنا.. رغم أنه ليس مثلنا في الحقيقة فلسنا نطارد الإرهابيين والمجرمين، ولسنا مسؤولين عن أمن «22» مليون مواطن، ولا نحن صناع قرار سياسي أو أمني! أيقنت في تلك اللحظة أن للشجاعة طعماً آخر، غير الذي أعتقده عندما أهاجم الفساد بقلمي، أو غير تلك التي يتمتع بها زميلي عادل الشجاع وهو ينتقد الوزراء بكل جرأة، أو حتى شجاعة زميلنا اليوسفي وهو ينشر لنا كل ما نكتب متجاوزاً العقليات المنغلقة على عصرها الغابر.. فهذه شجاعة وزير، يتحمل أمانة أمن دولة، ورجل مسؤول يعرف قيمة أن يتوقف أمام إشارة المرور الحمراء.. لعلها نوع من الإرادة القوية، والثقة بالنفس، ثم الثقة بالإنجاز ! لقد شغلت رأسي بالموضوع وخلص تفكيري إلى شيء واحد هو : أن الدكتور/العليمي واثق من مستوى الأداء الأمني لأجهزته، ومطمئن بأن اليمن بخير، وترفل بالأمن والسلام، وأن أحداً لن يجرؤ على التطاول على السلم الاجتماعي. الأخ الوزير لم يصعد على المنابر ويدعو، ويهتف بالشعارات، ويدغدغ مشاعر المواطنين بعبارات جميلة منمقة حول الأمن والسلام في اليمن.. ولم يمكث ساعة خلف المايكرفونات وأمام كاميرات الفضائيات ليحدّث الناس عن الإنجازات الأمنية، وحجم السلام السائد في الساحة اليمنية.. بل هو يختصر كل ذلك بممارسات عملية على أرض الواقع بتنقله في ربوع الوطن من غير أطقم حراسة ولا «عكفة» ملكية تتقاطر خلفه، مثلما يفعل بعض المشائخ والتجار والمسؤولين الأدنى مركزاً منه في بعض مؤسسات الدولة. هذا يذكرني بموقف للأخ رئيس الجمهورية حين أوقف سيارته أمام بريد التحرير في أشد الشوارع زحاماً من أجل رجلٍ عجوز يتكىء على عصا، مفسحاً له الطريق ليعبر بكل هدوء فيما هو يبتسم بكل سعادة.. مع أن بروتوكولات المواكب الرئاسية تفرض على الزعماء عدم المرور وليس التوقف بالمناطق الشعبية المزدحمة خشية على أرواحهم. يبدو لي أن الزعماء في اليمن خرقوا القاعدة، لأنهم واثقون أنهم قدموا لشعبهم الأمن والسلام، وأن حرصهم على أرواحهم لايختلف بشيء عن حرصهم على أرواح مواطنيهم.. ولأنهم مؤمنون بأنهم لم يكونوا سيّئين أو مقصرين ليسيء لهم أحد.. وهنا أتساءل : ياترى لماذا يحرص البعض على أن ترافقه المواكب المسلحة، رغم أنه ليس بمنزلة فخامة الرئيس ولا بمنزلة الدكتور رشاد العليمي!؟ فهلّا تعلموا الدرس ممن يفوقهم شجاعة، وأدركوا أن الشُجاعة هي نفوس نظيفة ومخلصة!.